ولا إنبَجَسَ الماءُ الزلالُ من الصَّفا ... ولا فاض يَنْبُوعٌ من الرَّبَوَات
ولا طلعت أكمامُ وردٍ وسَوْسَنٍ ... ولا أخضَرَّ رَيَّانٌ من الورقات
ولا عتَّقَتْ كرْمٌ دِنانً من الطّلي ... ولا نفخ النَّيْرُوزُ في القَصَبَات
ولا هامَ نحلٌ بالأزاهيِرِ شادِياً ... يُقَبِّلُ مَعْسُولاً من الوَجَنات
ولا عصفَت ريح الخريف بشاحبٍ ... من الورقِ الوسنانِ في الشجرات
ولا سَنْبَلَتْ حبَّاتُ قَمحٍ مُبَارَكٍ ... ولا أبْلَحَتْ عيدانَةٌ بفلاة
ولا أرْطَبَتْ إلا بميقاتِ خالقٍ ... يفيض على الأكوانِ بالرَّحِمات!
أنا الأرض أطياف الرَّبابِ مظَلّتي ... نهاراً وأسرابُ الغمام سُقاتي
وَرَيدَانَتي شعري وقيثارتي الصَّبا ... وتغريد أطيار الرّبا نغماتي
وأخطرُ في الأزهارِ وظَّاحةَ السَّنا ... وأعقد إكليلا من الخرزات
وأبْسَمُ عن لمحٍ من البرق خُلَبٍ ... وأعبَسُ بالإعصار والهبَوات
وأصرخ حتى يفزَعَ الرعدُ في السما ... وتنخلعَ الأنكالُ مرتعدات
وأغضبُ حتى يُنكِر الكونُ غضبتي ... وأبْسُطُ في صفحي يَدَ الحسنات
أنا الأمل الشَّعاعُ في كلِّ غايةٍ ... أنا الجوهرُ المكنون في الجمرات
أنا الذهبُ اللَّمَّاعُ في الترب والصَّفا ... تذيبونه بالنار والحسَرَات
تذيبونه من فرط ما تعبُدونه ... وما فيه من سحر سوى اللَّمعات
وتُسْقَونَهُ كالمُهْلِ يشوي بطونكم ... فما ذَوبُهُ إلا حميمُ طغاة
حميمٌ لمن لا يعرف الله قلبُهُ ... ويسبح في بحر من الْحُرُمات
فيا عابدي هذا الفِلِزَّ وما شَرَى ... وما ابتاعَ من جور ومن سطَوات
ويا صائغيه شهوةً في قلوبكم ... وزينة شيطانٍ وتاجَ عُتَاةِ
ويا مُرْسِليهِ في الأساريرِ صُفْرَةً ... وشُحًّا وكِبْراً جامد النظرات
وَتَبْلاً وأطماعاً وحرباً أثيمةً ... تُبيد وتُفني كلّ ذاتِ حياة
أيا عابدي هذا الفِلِزَّ وما شَرَى ... وما ابتاع من زهو ومن شهوات
رُوَيدَكُمُ هلاّ أذَبتُمْ قُلوبَكم ... وقد جَمُدَتْ كالمرو في الصَخَّرات
ويا ليت شعري كم نِداءٍ أتاكم ... وأنتم من الآثام في غَفلات!