وإعفاء أثره. وإذا تعمق الباحث في درس هذه التبعة، ردَّ دواعيها ومسبباتها إلى ذلك الاعتقاد السائد - قديماً وحديثاً - أن صاحب الجلالة هو خليفة الله في أرضه، لذلك كان لهذا الاعتقاد من الأثر القوي في نفسية الشعوب والأمم ما جعلها تشرع هذه العقوبة العنيفة لحفظ خليفة الله من الاغتيال وحرصاً على شخصيته المقدسة.
والأمة العربية لم تعرف في سالف عهدها التبعة الفردية بل كانت آخذة تبعة الجماعة باعتبار أنها ترى نفسها قائمة على التكتل وعلى المبادئ القبلية وإفناء الفرد إفناء كلياً في المجموع. وكم من حرب ظل ضرمها يحتدم بين قبيلة وقبيلة لجريمة ارتكبها أحد أفراد هاتين القبيلتين!. . . وكم من تضحية فرضت على فرد لم يقترف إثماً. . .! أو على أفراد قبيلة لم يجنوا جريرة أو ذنباً!. لقد كان رأس القبيلة هو المسئول الأول والمباشر عن عمل كل فرد من أفراد جماعته، كما أن القبيلة بأجمعها مسئولة عن هذا العمل أيضاً. . . وجاء الإسلام بالشريعة السماوية السمحة، فمحا تبعة الجماعة وأقر تبعة الفرد ورسم حدودها وأمسى الفرد مسئولاً عن عمله دون غيره مهما ترادفت آثامه وتعددت جرائمه، ولا تزروا وازرة وزر أخرى. . .
إلا أن العرب عرفوا، قبل الإسلام، نوعاً من التبعة الفردية، في حدود ضيقة محدودة، كانت قائمة ما قام (نظام الخليع) على معنى أن القبيلة كانت تكره في بعض الأحايين على مجازاة أحد أفرادها لخصال وخلال لا تقره عليها أو تتنافى مع بيئتها وأخلاقها - فتخلعه من ذمتها وتبعده عنها وتقطع صلته بها؛ فالمرء الذي تلفظه القبيلة يتحمل هو وحده تبعة عمله وليس لقبيلته أن تتحمل شيئاً من هذه التبعة كما أنها لا تطالب بدمه إذا أهدر.
إن هذه الظواهر الاجتماعية، في صدد تبعة الجماعة ليست في الواقع، إلا صدى تلك الحياة الاجتماعية الضيقة وصدى ذلك النظام الاجتماعي الضعيف. وكثيراً ما كانت هذه التبعة جد عنيفة وقاسية ينوء الفرد بحملها ويرزح تحت تقلها.
لقد تقلص ظل هذه التبعة عن الإنسان في مجتمعنا الحاضر وعفت رسومها وأمحى أثرها إلا عند الجماعات المتخلفة عن المدنية والحضارة واتجه إلى التبعية الفردية إذا أصبح الإنسان مسئولاً عما يرتكبه من آثام وجرائم، ولا شأن لأسرته وذوي قرابته فيما يرتكبه من إثم وجريمة، وإن كان بعض الأمم التي بلغت أقصى درجات المدنية والحضارة، وأسمى