الجهود النازعة إلى طلب حياة تكون أحسن أثاثاً ورئياً.
ولعل في الرجوع إلى بعض سطور له ما يفيدنا في توضيح صفات هذه الشخصية الفذة، ومما يقوله:(إنني أخاف أولئك الذين يفتشون عن ميول ورغبات خفية بين السطور، وأولئك الذين يريدون أن يجدوا فيَّ محرراً أو محافظاً. . . إنني لست من ذلك في شيء. . . لست بالمحرر ولا بالمحافظ، ولا بالراهب ولا بالخلي، وإنما أنا رجل أمقت الكذب والصولة في أي مكان وتحت أي مظهر. . . لا أريد أن أكون إلا فناناً. . . وهذا كل شيء) ولكن هذا الفنان الحر الذي أبغض الكذب والصولة في المعنى الذي تفهمهما لم يستطع أن يكون إلا محرراً للإنسان بأوسع معنى للتحرير، ولم يكن بذلك المتشائم الذي تمثلوه، لكنه كان كاتباً يتألم لمثله الأعلى، ويوقظ بكتاباته الأمل في الخروج من غسق الحياة التي وصفها. وقد تبدي في بعض مراحله أنه مؤمن بمستقبل الإنسان والإنسانية، فيقول في محاورة له لبستانه:(أتعلم بعد جيلين أو ثلاثة أن الأرض ستصبح بستاناً زاهراً وإذ ذاك كم تغدو الحياة جميلة؟) وهو الذي يقول بأن الإنسان قوة الأرض المركزية (وينبغي للإنسان أن يعلم أنه أسمى من كل ما في الطبيعة. . . . إننا أكوان سامية عظيمة؛ وحين يتسنى لنا أن نعرف كل قوى العبقرية البشرية تغدو قرناء للآلهة)
لكن هذه الآمال الكبرى لم تحل بينه وبين وصف عجز الإنسان في كل زمان ومكان، فهل تأتي ذلك منه بطريق المناقصة؟ نقول: لا، لأن تشيكوف إذا لم يشك لحظة في تقدم الإنسانية فإنه ليتألم، ويبعثه على الألم تشاؤمه الأسمى للنزاع إلى السمو؛ وهذا التشاؤم الإنساني تجاه ما يخور العقل أمامه عجزاً، وهذه العاطفة تتألم وتيأس إزاء خبط الحياة وعصف الموت.
يقول أحد أبطاله:(إني إذا ما خشيت الحياة ولم أفهمها، فعندما أرقد على بساط من الأعشاب. وأتأمل طويلاً في حشرة ولدت في مطلع الليل، لأتفهم شيئاً من وجودها. يخيل إلى أن حياتها ليست إلا مرحلة من الرعب والذعر، فيها أرى نفسي، وأتمثل خاطراتي. . . كل شيء يروعني لأني لا أفهم العقل ولا نهاية الأشياء. لا أفهم شيئاً، ولا أدرك أحداً. . . أما أنت فإذا كنت تفهم فأحر بي أن أهنئك. . .) و (حين ينظر الإنسان طويلاً في السماء الزرقاء المترامية، فالأفكار المنبعثة والنفس تتحد اتحاداً خفياً في عاطفة عزلة عميقة،