للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

الماضي البعيد يعود الآن، وهو الذي جعله ينسى الحالة السياسية وما فيها من تطورات ومفاجآت. . . كانت تشغل باله على الدوام، وخاصة تلك الليلة. لقد اعتقد تلك الليلة بالبعث، وكان يقول في نفسه: لعلها تجهل في حاضرها شخصيتها السابقة. . . وقد كذب هذا الوهم ما رآه من ميلها من أول نظرة إليه. . . فهي هي إذن، وسذاجتها في حديثها هي سذاجة حبيبته التي ورثها عنها ابنه (جيمس) معبوده الثاني بعد أمه، وكان يود تلك اللحظة لو يحضر جيمس ليشاهد طلعة أمه - أو على الأقل - ليشاهد طلعة نسخة منها، ولكن (جيمس) في ميادين الحرب، قد تملكه النزعة الإمبراطورية فأبى أن يخلد إلى السكينة في الوقت الذي تصوب سهام العدو إلى هدم إمبراطورية أجداده، فتطوع في الحرب برغم كل العراقيل التي وضعها والده في سبيله. . . ولكم كان يسر الشيخ إذا علم أن الفرقة التي ينتسب إليها ابنه قد حازت انتصاراً على العدو، وكان يعتقد ان الظفر قد تم بفضل حذق ابنه، وكان يكثر من ترديد ظفر الفرقة التي يحارب فيها ابنه أمام أصدقائه، وكان يقول لهم: وإلى حذق ابني يرجع الفضل. . . وكان عند التحاق ابنه بالجيش يخشى عليه عادية الردى، ولكن بعد أن تدبر تاريخ حياته وما فيه من نكبات وفواجع، استكثر على المقادير أن تختمها بفقده، وأصبح يميل إلى اعتقاد أن المقادير رحيمة، تكفر عما أصابته بهذه الحسنة، وقد أغراه بهذا الوهم ما كان يصله من حين وآخر من سلامة ابنه من كل الأخطار. . .!

في هذه اللحظة القدسية التي وجد فيها الشيخ نفسه بجوار حبيبته نسى العالم وما فيه من شرور، وشعر بسمو روجه وبلذة قدسية، كلها قد هبطت عليه من السماء. . . وكان يزيد هذا الشعور الروحي في داخله كلما فتح عينه فرأى صورة زوجته وحبيبته، أو هي بذاتها. . . ولم يكن هذا الشعور من فعل الخمر، فإنه لم يكرع غير ثلاثة أكواب من الويسكي لم تحدث له أي جموح في الخيال، بل هي على العكس قد زادت في انتباهه وذهبت بالغضب الذي كابده طول هذا اليوم.

وكان حديث الشيخ عادياً، أو قل كان مقطوعاُ، وهل في مثل هذه اللحظة يجري الحديث؟. . . وكان معظم ما قام به لا يخرج عن تعبيره عن غبطته وسروره وسعادته بتلك اللقيا، وكانت الفتاتان لا تكلفان أنفسهما أكثر من الابتسامة رداً على تمنياته. وقد أحدث سروره

<<  <  ج:
ص:  >  >>