وسمع من أمر خبيب ما سمع، وانتهت إليه أحاديث أولئك الذين أدركهم الموت قبل أن يحملهم إلى مكة ويبيعهم لقريش غدر الغادرين من هذيل. ولكنه عرف ما عرف، ورأى ما رأى، وسمع ما سمع. فذكر أموراً كان يقرؤها في الكتب، وأحداثاً كان يهلع لها حين يسمع أبناءها من الوعاظ. ذكر أولئك الشهداء الذين قتلوا في المسيحية تقتيلا، والذين امتحنوا بما كتب الله عليهم من ضروب المحن وفنون الكيد فلم تضعف نفوسهم ولم تهن عزائمهم ولم يفرطوا في دينهم ولم يجد الشك إلى نفوسهم سبيلا. ذكر أولئك الشهداء الذين أقاموا مجد المسيحية على أشلائهم وغذوه بدمائهم، وقووه بضعفهم، وأعزوه بما احتملوا في سبيله من الذل، وأيدوه بما لقوا في سبيله من الأذى والآلام. ذكر أولئك الشهداء الذين كان يكبرهم ويجلهم، ويرى أنهم شفعاؤه وشفعاء أمثاله عند الله، وانهم قدوته الصالحة وأسوته الحسنة ومثله الأعلى، وانه أسعد الناس لو استطاع أن يظفر ببعض ما ظفروا به من عذاب الدنيا ونعيم الآخرة؛ ومن ذل الدنيا وعز الآخرة؛ ومن هذا الموت الهين السريع الذي تتبعه حياة باقية سعيدة متصلة لا حد لما فيها من نعيم.
ذكر هؤلاء الشهداء وذكر أنه لم يزد حين أطاع أمر مولاه صفوان على أن قتل واحداً منهم، واقترف ذلك الإثم الذي اقترفه الظالمون الذين اضطهدوا الشهداء وفتنوهم؛ ثم قدموهم قرباناً إلى آلهتهم وأوثانهم في الزمن القديم. هنالك اضطربت نفسه اضطراباً، وزلزل قلبه زلزالا، ورأى حياته كلها وقد استحالت إلى شر منكر، ورأى ما قدم من الخير وقد استحال إلى فساد، ورأى ما احتمل من الآلام وقد أصبح هباء. وهنالك ملك الندم عليه أمره، وملأ اليأس عليه قلبه، وعجز أصحابه عن أن يمسوا نفسه بما كانوا يقدمون إليه من تسلية أو عزاء. على انه لم يكن يحس في نفسه شيئاً من الموجدة على مولاه صفوان، ولم يكن يضمر شيئاً من البغض، إنما كانت موجودته كلها وحقده كله قسمة بين نفسه وبين امرأة من قريش، وهي سلافة بنت سعيد بن سهم زوج طلحة ابن عبد الله بن عبد العزى. كان واجداً على نفسه أشد الموجدة، مبغضاً لها أشد البغض لأنها أثمت بقتل هذا الرجل الشهيد، وكان حانقاً على سلافة حاقداً عليها لأنه هي أصل هذا الشر، ومصدر هذا الإثم، ومنشأ هذا البلاء وكان يقول لأصحابه: لولا أن هذه المرأة الآثمة نذرت ما نذرت، وأذاعت ما أذاعت من أهل البادية، لما دفع صفوان إلى ما دفع إليه، ولما ظفر صفوان بما ظفر به، ولما اشترى