تظنوا بي الجزع لزدت. ثم ينهض إليه أحدهم فيقتله ويعودون عنه وانهم ليتحدثون من أخلاقه وخصاله بما كان خليقاً أن يصرفهم عن قتله لولا أن قلوبهم قست فهي كالحجارة أو أشد قسوة. لقد كانوا يقولون انهم جعلوا سجنه عند امرأة منهم، وان هذه المرأة كانت تتحدث إليهم من أمره بالأعاجيب، كانت تراه مغلولا يأكل من الفاكهة والثمر ما ليس لأهل مكة عهد به في مثل هذا الوقت. لا تدري كيف سيق إليه. ولقد أنبأتهم انه حين أظله اليوم الذي كان يراد قتله فيه طلب إليها موسى يتهيأ بها للموت. فأرسلتها إليه مع طفل صغير يدرج، ثم لم تلبث أن راعها ما فعلت، وان امتلأ قلبها رعباً، وان قالت لنفسها ما يمنع هذا الأسير أن يقتل هذا الصبي فيثأر بنفسه قبل أن يدركه الموت؟ وأقبلت عليه مسرعة فإذا هو قد اجلس الطفل على فخذه وهو يداعبه ويلاعبه، وأكبر الظن أنه إنما كان يودع فيه طفلاً له بعيداً. فلما رأى المرأة مقبلة وقد أخذها الروع ابتسم لها ابتسامة الحزن، ونظر إلى الطفل نظرة الحب، وقال للمرأة: أشفقت على هذا الصبي من الغدر، ليس الغدر من أخلاقنا
أفمثل هذا الرجل كان خليقاً أن تقدمه قريش فتقتله لو أن قريشاً تعرف الحق، أو تقدر الخير، أو ترجوا لله وقارا، أو تحس في قلوبها أثراً من آثار الرحمة والبر؟ قال قائل منهم ما أرى إلا أن لهؤلاء الناس من أهل يثرب شأناً. فلو أنهم يقيمون أمرهم على شيء من باطل هذه الحياة الدنيا لما استقبلوه بهذا الحزم، ولما احتملوا في سبيله هذا الأهوال، ولما رخصت عليهم نفوسهم ودماؤهم وأموالهم وأهلهم إلى هذا الحد. والله أني لأسمع ما يقال وأرى ما يحدث فلا أشك في أن أهل هذه الأرض يستقبلون عصراً كذلك العصر الذي استقبله أهل بلادنا حين انبعث فيهم رسل المسيح. هذا الأيمان الذي زين في بعض القلوب حتى زهدها في كل شيء، وهذا اليقين الذي سيطر على بعض النفوس حتى هون عليها كل شيء، هذه المعجزات التي تساق إلى الناس في يسر وسذاجة وما كانوا ينتظرونها ولا يرجونها فلا تغرهم ولا تطغيهم ولا تدفعهم إلى أشر ولا بطر
كل هذا دليل واضح على أن السماء لم تقرب من الأرض قربها في هذه الأيام، وعلى أن أخبار السماء لم تتصل بالأرض اتصالها في هذه الأيام، وعلى أن الله يريد بالناس شيئاً لم نكن نقدر انه كائن ولكن أو أنه قد آن. أما إني لاحق بهؤلاء الناس إن استطعت إلى ذلك سبيلا. قال الآخرون: ما ايسر ذلك وما أعسره! وأين لمثلنا أن يفلت من سادة قريش، وإن