الرجل كان قد نذر ألا يمس كافراً ولا يمسه كافر، ولقد حدثت أنه لما امتنع على القوم فقاتلهم وقاتلوه، رفع صوته ضارعاً إلى ربه وهو يقول: اللهم إني قد حميت دينك أول النهار فاحم لحمي آخر النهار. ولما بكى نسطاس عند هذا الحديث فلم يبك وحده، وإنما بكى معه أصحابه جميعاً بكاء طويلا، حتى إذا كفكفت عبرته وهدأ عنهم البكاء مضى في صمته، ولكنهم ألحوا عليه أن يتم ما بدأ من الحديث، فقال وبم تريدون أن أتحدث إليكم؟ لقد كنت أقرأ أخبار شهدائنا وأسمع أحاديثهم فأرهبها وأكبرها وأخافها وأرغب فيها وأود لو أني حييت في تلك الأيام التي كانت ترخص فيها الحياة، ويغلو فيها الإيمان، وأود لو أني كنت واحداً من هؤلاء الناس الذين باعوا نفوسهم من الله، فقد أُتيح لي اليوم أن أعيش في بيئة الشهداء وأن أراهم وأتحدث إليهم وأسمع منهم، ولكني لم أبع نفسي من الله، وإنما بعتها من الشيطان، ولم أسفك دمي في سبيل الله، وإنما سفكت دم شهيد كريم.
ولقد سمعت أبا سفيان زعيم قريش يسأله أيما احب إليه؟ أن يقوم محمد مقامه هذا وأن يكون هو آمنا بين اهله؟ فيجيبه والله ما احب أن تصيب محمداً شوكة تؤذيه وأنا آمن بين أهلي، فيقول أبو سفيان لمن حضر من أشراف قريش: ما رأيت أحداً يحب أحداً كما يحب هؤلاء الناس صاحبهم. ثم تمتد يدي الآثمة إلى هذه الحياة الطاهرة فنطفئ سراجها، والى هذا الدم الزكي فتسفكه على الأرض مخافة من غضب صفوان، يا للهول! لقد كنت احسب أن صفوان لم يملك إلا جسمي وان نفسي ما زالت حرة. فقد علمت الآن إني رقيق حقاً، وقد علمت الآن أن سلطان السادة على الأرقاء قد يتجاوز الأجسام إلى النفوس، وقد علمت الآن أن الرجل الذي يرضى بالرق ولا يموت دون الحرية إنما يقتل نفسه قتلا. لقد قتلت نفسي يوم آثرت الحياة وقبلت أن أكون سلعة في يد أولئك التجار.
قال رجل من أصحابه إن كان صريعك هذا شهيداً كريماً، وما أراه إلا كذلك، فان رفيقه الذي قتله بنو الحارث بن عامر لم يكن أقل منه كرامة، ولعل مصرعه أن يكون أشد من مصرع صاحبه ترويعاً للنفس وتمزيقاً للقلب، لم يبسطوا عليه بالشر يد مولى من مواليهم أو عبد من عبيدهم، وإنما كانوا ظماء إلى دمه، حراصاً على أن يخمدوا جذوته بأيديهم خرج به جمعهم إلى التنعيم فلما أراد قتله استأذنهم في أن يتقرب إلى ربه بالصلاة قبل أن يخطو آخر خطواته في الحياة، فأذنوا له فصلى ركعتين، ثم قال لهم لولا أني أخاف أن