أقبل جماعة من هذيل على صاحب يثرب فزعموا له انهم قد آمنوا به وأسلموا له، وان دينه قد فشا فيهم، وسألوه أن يرسل معهم من يفقههم في الدين ويعلمهم شرائعه. يظهرون الإخلاص ويضمرون الغدر، لا يبتغون إلا أن يظفروا بنفر من أهل يثرب يبيعونهم من قريش لتصيب بهم ثأراً وليصيبوا بهم مالاً. ويريد الله لأمرٍ قضاه أن يختار نبي يثرب ستة من أصحابه وأن يؤمر عليهم عاصم بن ثابت بن الأفلح الذي كانت تبتغيه سلافة، وان يرسل هؤلاء النفر من أصحابه مع أولئك الغادرين. فما هي إلا أن يقربوا من مكة حتى يظهر الخفي ويصرح الشر ويتبين الغدر. وإذا الذين كانوا يعلنون إيمانهم يستصرخون فيأتيهم الصريخ من هذيل. وإذا أصحاب محمد يرون الغدر فينحازون إلى الجبل ويعاهدهم أعداؤهم على ألا يقتلوهم ولا يمسوهم بأذى أن هم ألفوا بأيديهم. فأما عاصم واثنان من أصحابه فيقسمون لا ينزلون على عهد كافر أبداً. ويقاتلون حتى يقتلوا. وأما الآخرون فيحبون الحياة ويلينون لها، فيستأسرون ولا يكادون يفعلون حتى يروا الغدر، فيأبى أحدهم أن يتبع الغادرين وإذا هو مقتول، ويبقى الآخران أسيرين يحملان إلى مكة ويباعان فيها. فيشتري أحدهما صفوان ويأمرني به فأتم له ما قدر له من نعيم، ويتم لي ما قدر لي من شقاء.
ثم يجهش نسطاس بالبكاء ويغرق فيه حينا. ثم يعود إلى حديثه في صوته ذلك الهادئ البعيد، فيقول لقد عرفت ورأيت من أنباء هؤلاء الناس ما لم أكن أقدر أن أعرف أو أرى. ولولا أن الشقاء مقضي علي ومقدور لي، لكان فيما عرفت قبل أن أقترف الإثم صارف لي عن اقترافه، وماذا كنت أخاف لو عصيت صفوان ولم أسفك هذا الدم الحرام؟ وأيهما أهون عليّ؟ وأيهما كان خليقاً أن أوثره؟ الموت بيد صفوان أم الشقاء الأبدي الذي دفعت إليه؟
لقد فرحت هذيل بمقتل عاصم بن ثابت، وقالت مائة من الإبل تدفعها إلينا القرشية حين نأتيها بهذا الرأس، ثم أقبلوا إليه يريدون أن يحتزوا رأسه؟ ولكن ماذا سمعت وماذا تسمعون، هذه ظلة من الدبر تقوم دونه فتحميه وتمنعهم أن يصلوا إليه، فيقول بعضهم لبعض: دعوه حتى يأتي الليل فسنصرف عنه هذه الدبر، وسيخلص لنا رأسه. حتى إذا كان الليل هموا أن يسعوا إليه ليحتزوا رأسه؛ ولكن ماذا سمعت وماذا تسمعون؟ لم يبلغوه ولم يمسوه، وإنما أقبل السيل فاحتمله، ومضى به إلى حيث لا تبلغه يد. ولقد حدثت أن هذا