ووجدت روحَ المؤلف حائرة بين مباهج الشعر، ومفاتن النثر، ولكن ميله الشعري جعله يعرض لدراسة الشعراء أكثر من دراسة الكتاب.
أفلم يعرض لنا بول فيرلين ويسايره أصدق مسايرة، ويتابعه متابعة الشاعر يقدر عظمة الشاعر؟
أو لم يقدم لنا بودلير في فتنة شعره، ويقظة وجدانه، وتوهج شهواته؟ ثم أكثر من ذلك إن روح الشعر في نفس صاحبنا غلبت عليه فجعلته يترجم قبره شلي، وعودة الملاح لجون ما سفيلد، وأغنية القطيع، وبيت الراعي، ثم يشرق علينا بنفحة شعرية هي قصيدته في باريس.
لو أستطيع أن أقول إنه حتى فيما كتب عن ذكرياته في آخر الكتاب كان شاعراً في كثير من الأحايين.
وليس بغريب أن يختار هؤلاء الشعراء موضوعاً لبحثه، فبين نظرتهم الفنية النفسية إلى الحياة بين نظرة صلات ووشائج يدركها الناقد الفطن!
ولا يسعنا إلا أن نقول إنه في اختياره لقصائد القبرة وعودة الملاح، وبيت الراعي، كان منسجماً مع اتجاهات نفسه وأحاسيسه، ولكني أعتقد أن شعوره نحو هذه القصائد يختلف قوة وضعفاً؛ وتبعاً لذلك تتفاوت القصائد.
ولا يسعني إلا أن أرفع القبرة إلى مستوى قدرة شاعرنا نفسه التي لمسناها حية متألقة بسامة في (الجندول)، وفي قصيدته الخالدة (موت شاعر)، ولعل هذه القصيدة الأخيرة كانت أول عهدي بالملاح التائه، ثم قصيدته في ميلاد الشاعر التي نشرتها مجلة أبولو عقب وفاة شوقي.
ونعود فنذكر رنة مطلعها، وحسن اختيار بحرها، وعذوبة قافيتها وشاعرنا يجيد الاستهلال. أنظر إلى روعة المطلع: