ومثابرة وإلحاح، مقبلاً في دلال كأنه الشماتة، وفي شماتة كأنها الدلال، مقبلاً مقبلاً حتى ليقف على رأسها بل في أعماق رأسها، وحتى لتجمد له في مكانها كأنها الصم الذي لا حياة به، وفيها مع ذلك كل ما مضى لها من حياة.
إلى أين يا مسكينة؟
أنا (دعاء الكروان)!
نعم، ولا فرار من هذا (الدعاء)، لأن الذي يفر منه ينقلب إليه.
تقول رواية صديقنا طه في بعض صفحاتها:(. . . وهانحن أولاء ننزل مضطربات ونسعى متعثرات، وهذه أمنا تريد أن تسأل فيم إناخة الجملين، وفيم النزول في غير منزل، وهأنذا هذه أريد أن أقول شيئاً ولكني لا أكاد أدير لساني في فمي، ولا أكاد أستوعب ما كانت أمنا تقول. إنما هي صيحة منكرة مروعة تنبعث في الجو، وجسم ثقيل متهالك يسقط على الأرض، وإذا أختي قد صرعت، وإذا خالنا هو الذي صرعها لأنه أغمد خنجره في صدرها. ونحن عاكفتان على هذا الجسم الصريع يضطرب ويتخبط ويتفجر منه الدم في قوة كما يتفجر الماء من الينبوع. نحن عاكفتان في ذهول وغفلة وبله، لم نفهم شيئاً ولم نقدر شيئاً ولم ننتظر شيئاً، وإنما أخذنا على غرة أخذاً، واختطفت هنادي من بيننا اختطافاً. وجسمها يضطرب ويتخبط، ودمها يتفجر، ولسانها يضطرب ببعض الحديث في فمها ثم يهدأ الجسم المضطرب ويسكن اللسان المتحرك ويخفف تفجر الدم، ويمتلئ الجو حولنا بهذا السكون الأليم سكون الموت، ونحن فيما نحن فيه من ذهول وبله وخالنا قائم أمامنا كالشيطان إلا أنه قد أخذه الذهول كما أخذنا.
(وهذا نداؤك أيها الطائر العزيز يبلغني من بعيد، وهذا صوتك يدنو إلي قليلاً قليلاً، وهذا غناؤك ينتشر في الجو كأنه النور المشرق قد أظهر لنا ما كان يغمرنا من الهول دون أن نراه، وهاأنت ذا تبعث صيحاتك يتلو بعضها بعضاً كأنما هي سهام من نور قد تلاحقت مسرعة في هذه الظلمة فطردت من نفسي ذهولها وجلت عنها غفلتها وأيقظتها من هذا البله، وجلت لنا الجريمة منكرة بشعة، والمجرم آثماً بغيضاً، والضحية صريعة مضرجة بالدماء. . . إن صوتك لينبعث في الفضاء مستغيثاً وليس من يغيث، وإن صوتي لينبعث في الفضاء داعياً وليس من يجيب. . .)