وتجري الرواية في مجراها بين جوانح نفس واحدة هي أزحم بالأشباح والأصداء من كل فضاء: نفس الفتاة آمنة أخت الصريعة هنادي، وهي كلما أوغلت في باطنها حتى انقطع ما بينها وبين هذا الفضاء المحيط بنا لحق بها الدعاء وجذبها إلى حيث تستمع النداء. فتغرق آخر الأمر في صمت سعيد كما كانت تغرق في الصمت الشقي حيناً بعد حين:(ولكن صوتك أيها الطائر العزيز يبلغني فيتنزعني انتزاعاً من هذا الصمت العميق، فأثب وجلة مذعورة ويثب هو وجلاً مذعوراً، ثم لا نلبث أن يثوب إلينا الهدوء. فأما أنا فتنحدر على خدي دمعتان حارتان، وأما هو فيقول وقد اعتمد بيديه على المائدة: دعاء لكروان! أترينه كان يرجع صوته هذا الترجيع حين صرعت هنادي في ذلك الفضاء العريض)
وهكذا يستمع إليَّ الكروان من تعود أن يستمع إليه؛ سابح على حومة الليل يمد عرقي الظلام من صوته السريع بحبل خاطف يجذبهم إلى الفضاء، كلما انقطعوا عن الفضاء.
يجذبهم من عالم الذكرى إلى عالم الشهادة، ويجذبهم من عالم الخوف إلى عالم الطمأنينة، ويجذبهم من عالم الوحشة إلى عالم الإيناس، ثم يبدو له أن يجذبهم من الإيناس إلى الوحشة ومن الطمأنينة إلى الخوف ومن الشهادة إلى الذكرى، وينجذبون.
تسمعه السنةّ ومعك سامع، وسمعته السنة الدابرة وحدك، وقد تسمعه من قابلٍ وليست معك تانك الأذنان الأوليان، بل معك غيرهما أذنان أخريان! وربما سمعه معك من بينهم وبين السمع حجاب، وربما سمعه معك من أغفلوك وأغفلوه. ويأتي الدعاء فيدعونا ولعلنا نحن الذين دعونه، ولكنه يأتي متوقعاً وغير متوقع، ومحبوباً وغير محبوب، وقائماً على موعده كأنه مرتبط بنظام من أفلاك الليل الذي يحبه ويأوي إليه، ويتعلم على يدي أنواره وظلماته، ويعلِّم من يتعلمون.
يا (دعاء الكروان)!
موعدنا معك الفضاء الرحيب كلما أوغلت بنا الذكرى في أغوار ينقطع ما بينها وبين الفضاء الرحيب.
ومن دعائك أنك جذبتنا خمساً وعشرين سنة أو جذبت إلينا تلك السنين الخمس والعشرين، وإنك أوحيت إلى طه ما يوحي، فإذا به يفتح لنا فضاء الليل وما فيه من أصداء وأشباح، ويفتح لنا فضاء النفس الإنسانية وما فيها من أصداء وأشباح، وإذا به يلقي إلينا بعاصم في