انقطع أبو سليمان عن زيارة بيوتات الوزراء ودور أكابر بغداد على الرغم من ميل طبيعي كان فيه يدفعه دوماً إلى تتبع أخبار الدولة والحوادث العامة وسياسة ذلك الوقت، وما كانت تدبره الأحزاب من مؤامرات وفتن إلى غير ذلك من أمور كان كلفاً بها مشتاقاً إلى معرفتها حتى اتخذ له عيوناً وأرصاداً من تلاميذه وأصدقائه ومحبيه يأتونه بالأخبار أمثال أبى حيان التوحيدي صاحب (الإمتاع والمؤانسة)؛ وكان يغشى مجالس الرؤساء ويطلع على الأخبار، ومهما علمه من ذلك نقله إليه وحاضره به. ولأجله صنف كتاب الإمتاع والمؤانسة، نقل له فيه ما كان يدور في مجلس أبي الفضل ابن العارض الشيرازي عندما تولى وزارة صمصام الدولة بن عضد الدولة من أخبار. ولكنه لم ينقطع عن زيارة بعض بيوتات العلم والأدب أو الأنس والطرب، ولم يأنف أن يزور مثلاً رسل سجستان في أيام الجمعة وكان فيهم ابن جبلة الكاتب، وابن برمويه، وأبن الناظر أبو منصور وأخوه، وأبو سليمان وبندار المغنى، وغزال الراقص، وعلم وراء الستارة (جارية) وغيرهم من أمثال هذه الطبقة.
ولأبى سليمان نفس تمثل نفسية الموسوعيين (الأنسكلوبيديين) بكل معنى الكلمة؛ تراه يتحدث عن نظرية العلم والمعرفة فيقول: إن العلم صورة المعلوم في نفس العالم؛ وانفس العلماء عالمة بالفعل، وأنفس المتعلمين عالمة بالقوة. والتعليم هو إبراز ما بالقوة إلى الفعل؛ والتعلم هو بروز ما هو بالقوة. إلى الفعل. والنفس الفلكية عالمة؛ بالقوة. وكل نفس جزئية تكون أكثر معلوماً وأحكم مصنوعاً فهي أقرب إلى النفس الفلكية تشبهاً بها ونصيراً لها. وتراه يتكلم عن القرآن والحديث والأحكام بكل إمعان وإتقان وسعة إطلاع حتى كأنك أمام أحد المفسرين أو الفقهاء أو المحدثين. وقد أكسبته هذه الإحاطة العامة شهرة جعلت البعض يكتبون إليه يسألونه وهم في أقاصي البلاد. كتب إليه أبو جعفر ملك سجستان يسأله عن القرآن والعربية والشعر والأحكام.
وتراه يتحدث عن السياسة وصفات الملوك وأنظمة المملكة، فيجيد في الموضوع كل الإجادة ويأتي بنظريات تكاد تكون من أحدث النظريات. فيصل علم ذلك إلى الوزير أبى العارض