نصابه، وعلى إدانة الحكومة القائمة، ولم يكونوا دون الخوارج في هذه الناحية وفي مَقْتِ تلك الدولة مقتاً شديداً تأصّل في حنايا النفوس؛ أما الفارق الذي كان يميِّز أفراد الحزب الأخير عن سواهم فهو صرامتهم الشديدة ودقتهم في تنفيذ مبادئهم ونشرها. وكان من آرائهم الجوهرية أنه يجب على الإمام أو زعيم المجتمع أن يحكم باسم الله وبمقتضى كتابه، وأنّ من سار على غير هذا الدرب فقد باع نصيبه في الحياة الأخرى، وأن النجاة الأبدية وقف على اختيار خليفة النبيّ. وكانوا يعدُّون المسلمين الذين يأبون سبّ عليّ وعثمان كفاراً مارقين، كما كانوا يرون من الضروري على كل مؤمن صادق الإيمان أن يساهم في (الجهاد المقدس) ضد هؤلاء وأمثالهم، وأن يقتلهم ويقتل زوجاتهم وأطفالهم أنّى ثقفتهم.
ولقد ارتدت هذه المبادئ الفظة على العصاة الذين سرعان ما وجدوا أنفسهم مهدّدين بخطر الانقراض، ومن ثم أخذت الآراء المعتدلة تنتشر بينهم فأحلَّ الأباضيون (أتباع عبد الله بن أباض) عيشهم بين المسلمين والاختلاط بهم في حدود التساهل المشترك بين الطرفين، ولم يكن التساهل في الواقع مناقضاً لما يريده الخوارج من إقامة مملكة الله على الأرض، ولكن حطّم منطقهم العنيد، كل دستور يوضع؛ فهم يقولون - كما لاحظ عليّ - (لا إمارة ولكن لابد من إمارة برة أو فاجرة) ومع ذلك فقد كانوا يحاربون بإيمان ثابت وعقيدة خالصة في سبيل مرميً شريف، ولم تكن لهم غاية دنيوية يسعون من اجلها على نقيض الأحزاب السياسية الأخرى.
تكلم الشهرستاني عن الإثني عشر ألفاً الأوائل الذين ثاروا ضد عليّ فوصفهم بقوله (إنهم أهل صيام وصلاة). وكان القرآن حكَمَهم في حياتهم والمهيمن على خواطرهم، حتى أن تاريخ اعتقادهم الأول، وتاريخ المضطهدين والشهداء والمؤمنين. . . كل ذلك غدا مأساة حقيقية واقعة كانوا هم أنفسهم أبطالها الذين قاموا بتمثيلها، كما أن خوفهم من الجحيم أثار فيهم حماسة صادقة وغيرة على إحقاق العدل، كما امتحنوا اعتقادهم الشخصي في دقة وخبروا إيمان جيرانهم. وويل للذين كانوا يجدونه ضعيف الإيمان، فهناك خطوة واحدة تقرب المخطئ من الإسلام، وعلى الرغم من أنه يمكن التجاوز عن الزلة وغفرانها بالتوبة الصادقة إلا أنهم كانوا يُسلكون أيّ مسلم ارتكب إحدى الكبائر ولو مرة واحدة في زمرة الكفّار المخلدين في النار، أو كان ذلك على الأقل في نظر الخوارج المؤمنين.