بارح المنزل، وأين ذهبت آراؤه ومأثورات أقواله في الاكتفاء بسماع ما يذيعه المذياع عن أوصاف الموكب؟؟
نعم كان الباشا صادقاً في عزمته، وكان قانعاً بالبقاء أمام المذياع مؤثراً الراحة في جلبابه وعباءته على التعب في سترته المشدودة لأن نفسه كانت لا تختلج بلاعج يثير كامناً فيها يلوح له بأطراف أمان يصبو دائماً إلى تحقيقها. وكان كذلك مخلصاً في دعوة أفراد أسرته إلى البقاء في المنزل بل واحتجازهم حوله، لا خوفاً عليهم من أخطار الطريق المزدحم، وتطاول النظرات العابثة كما كان يجري لسانه بذلك، ولكن إجابة لداعي أنانية لابسته إذ ذاك، مردها - كما أسلفنا البيان - إلى ألا تكون متعة من جانب أفراد أسرته لا يريد، أو هو لا يقدر على أن يستمع بها أولاً!
ومرض الباشا؟. . . نعم إن الباشا مريض، ولكنه مرض لا يحجزه عن الخروج إذا أراد. أما إذا لم يرد فالمرض يقفز إلى الصف الأول من الأسباب التي يصح أن يعتذر بها عن الخروج. وقد كان الأمر كذلك في أول الرواية، ثم كان عكس ذلك في نهايتها!!
رأينا الباشا يصمد لإغراء أقوال المذيع عن بهجة الموكب وطرافته، ويتمسك برأيه في البقاء بالمنزل ويسفه كل رأي عداه. ولكن حدث أن هاج (الشيخ كروان) في نفسه أمنية اقتعاد مقعد في مجلس الشيوخ فلمعت نفسه بشيء خاطف ألهاه بعض الشيء عما كان موطناً النفس عليه، وأخذ أفراد أسرته يتركونه الواحد بعد الآخر بحجج لم يستطع دفعها، وجاءت هتافات جمعية الشبان ودعوتهم إياه إلى مشاهدة الموكب من مكان لائق مأمون فاتجهت أنانيته السابقة الذكر والتعليل ناحية أخرى هي التفرد بمشاهدة الموكب من مكان قد لا يوفق إليه غيره ممن خلفوه بالمنزل وخرجوا، فكان يشرف مباشرة على مسير الموكب.
اصطلحت كل هذه الواردات والتأثرات على الباشا العنيد فجعلته يلين وجعلت لأقوال المذيع منفذاً إلى مكانة الرغبة في نفسه فسعرتها فإذا هو يندفع خارجاً وفي لباس نالت منه الأيام فجعلته غير صالح للظهور به في حفل كبير!
حقاً إن الإنسان لكائن متغير كصفحة الماء لا يقيم على حال، وله في كل حال أراء ومنطق ومذاهب بفعل المؤثرات التي تطلق من أعماق النفس تيارات تسيطر عليه وتوجهه كما يريد.