للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

ذلك ولم نسمع أن أحداً من أهل العلم قد التمسه أو أقدم عليه دون أن تكون له أداته الطبيعية؛ وليس الناس ملزمين برأي من الآراء كأنه فريضة محكمة، وإنما هو العلم أساسه الحجة والبرهان. ولو اتفق الناس على أن رجلاً منهم صار من أهل الاجتهاد لما أعفاه ذلك من تمحيص العقول لآرائه، والتثبت من حجته. ولو أنكر الناس على رجل منهم هذه المنزلة لما أعفاهم ذلك من الخضوع لرأيه حين تكون الحجة إلى جانبه

فليس الأمر إذن أمر شروط تشترط، وإنما هو العلم يجب أن تسمع كلمته من أي فم كان، وأن تفهم وتقبل إذا كانت حقاً، وأن ترفض وترد إذا كانت باطلاً، والحق أحق أنت يتبع!

ولكن، لندع هذا كله جانباً، ولننظر في نفس الشروط كما يصورها الذين خوفوا الناس بها، وحجروا على العقول من أجلها!

تصفح ما شئت من كتب الأصول التي وضعها المتأخرون، واقرأ ما شئت من هذه الشروط، تجده يبدو لك أول الأمر عسيراً لا يستطاع تحقيقه؛ فإذا راجعت فيه الشروح والحواشي والتقريرات، وجدت الأمر على خلاف ما بدا لك، ووجدته شرطاً هيناً سهل الحصول

قالوا: أول شروط الاجتهاد أن يكون المرء عالماً بكتاب الله وسنة رسوله؛ ثم جعلوا يضخمون هذا الشرط، فحكوا لنا خلاف العلماء فينا يجب علمه من السنة؛ فقالوا: ألفان، وقالوا: عشرة آلاف؛ حتى زعم بعضهم أنه سأل أحمد ابن حنبل: كم يكفي الرجل من الحديث حتى يمكنه أن يفتي؟ يكفيه مائة ألف؟ قال: لا؛ قال: ثلاثمائة ألف؟ قال: لا؛ قال: أربعمائة ألف؟ قال: لا؛ قال: أيكفيه خمسمائة ألف؟ قال: أرجو!

لا تخف - أيها القارئ - ولا تستصعب الأمر، فأن شارح التحرير يقول: (أن ذلك محمول على الاحتياط والتغليظ في الفتيا)؛ وإن الغزالي يقول: (لا يشترط معرفة جميع ما في الكتاب، بل ما تتعلق به الأحكام. . . ولا يشترط حفظها عن ظهر قلبه، بل يكون عالماً بمواضعها بحيث يطلب منها الآية المحتاج إليها في وقت الحاجة، ولا يلزم حفظ السنة عن ظهر قلبه، بل يكون عنده اصل محقق لجميع الأحاديث المتعلقة بالأحكام. ويكفيه أن يعرف مواقع كل باب فيراجعه وقت الحاجة).

فانظر كيف بدأ هذا الشرط عسيراً هائلاً، ثم عاد خفيفاً هيناً!

<<  <  ج:
ص:  >  >>