المؤلفين يترفقون في شرح القسم الأول، ثم ينطلقون كالسهام عند شرح القسم الثاني، وتظهر براعتهم في تشريح دقائق المعاملات
وهنا نكتة تستحق التسجيل. فرجل الدين في الفرنسية يوصف بأنه ومعنى هذا الوصف أنه لا يصلح لفهم أمور المعاش انقطاعه عن صحبة الناس
فكيف أمكن لرجال الدين من المسلمين أن يكونوا أئمة في شرح القوانين المدنية؟
يرجع ذلك إلى روح الدين الإسلامي، وهو دين يدعو جميع أبنائه إلى الاندماج في المجتمع، ويقهرهم قهراً على الأخذ من منافع الدنيا بنصيب، ليعرفوا الدقائق من شؤون الناس وهم قضاة الناس. وهل يصلح القاضي للفصل في نزاع لا يحس له شبيهاً في حياته المعاشية؟
كان يقال إن أحق الناس بالإمامة في الصلاة وفي القضاء هو المتزوج، ويرجح زوج المرأة الجميلة، لأنه أقرب إلى التعفف، بفضل ما يملك من الجمال الحلال
وأقول إنما قدَّم زوج المرأة الجميلة لأنه يعاني من المتاعب أضعاف ما يعاني سواه. فهو أعرف بشؤون المجتمع، وأقدر على فهم شؤون المعاش
وأقول أيضاً إن تنقل الفقيه منم أرض إلى أرض كان يزيد في قيمة التشريعية. فالشافعي له مذهب جديد ومذهب قديم بسبب تنقله بين مصر والعراق.
وأقول كذلك إن الرحلة كانت شرطاً في التفوق العلمي عند الأسلاف لفضلها الظاهر في الاطلاع على دقائق العادات والتقاليد
والقول الفصل أن رجل الدين عند المسلمين لم يكن من رجال القوانين المدنية إلا لأنه كان يساير المجتمع ويراوحه ويغاديه بلا انحسار ولا انقباض
وهل أستطيع القول بأن في الدين الإسلامي أقطاباً كانوا من كبار الأغنياء، ومن المتصرفين في المتجرات والمزروعات؟
إن الصوفية أنفسهم وهم الغاية في الزهد لم يملكوا الفرار من المجتمع؛ فقد كانوا مسئولين أدبياً عن تدبير المعاش للمريدين أليس من العجب أن نقرر أن أصدق ما كتب في آداب التجارة والزراعة والصناعة هو ما صدر عن أقلام الصوفية؟