للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

فطاعته للدين إذا طاعة نفسية، ومحاولة الشذوذ عن أوامر ونواهيه أمر غير قريب إلى نفسه. ولكن واضع القانون، في نظر الخاضع له، إنسان غير معصوم، وبالأخص غير منزه عن التأثر بالعوامل الشخصية في تقنية لأنه من نوعه الإنساني وليس من جنس آخر أسمي منه. فالقانون له احترام من نفس الفرد الخاضع له وما دام لم يتعارض مع رغباته الخاصة. فإذا تعارض قل الأكثرات به في نفسه لأن الانحراف - هكذا ينظر الفرد - عن الصواب قد يكون في القانون نفسه دون أن يكون في رغبات الفرد. فموقف الفرد إذا من القانون موقف الناقد؛ وأساس النقد عنده رغباته الخاصة في الأغلب؛ وطاعته للقانون في كثير من الأحايين ليست لذات القانون بل للخشية من منفذه والقائم بأمره. وإذا قل عنصر الرضا النفسي في الطاعة كانت محاولة المخالفة للقانون موجودة في النفس وقوعها مرهون فحسب بضعف الرقابة أو بزوالها

فمحاولة المدينة بقانونها وبأخلاقها الاستغناء عن الدين وعن العقيدة محاولة قاصرة، نجاحها لا يتعدى نطاقاً ضيقاً وهو نطاق الخاصة، وهي في حاجة في الواقع إلى الدين وإلى أن يسود المتدين جماعتها. ومهما استعانت بالعلم الذي هو مظهر آخر من مظاهرها، فليس في العالم وحده ما تحتاجه من العون؛ إذ الإنسان كما هو مودع في فطرته الميل إلى العلم وإلى الكشف، مودع في فطرته كذلك الاطمئنان والركون إلى (السر الخفي)، وتأليهه أو تعظيمه للغير ظاهرة من ظواهر هذا الاطمئنان والركون. والله في نظر الإنسان رمز كل سر وكل خفاء، فلا يدرك كنهه ولا يوقف على حقيقته. ولهذا كان له أرفع درجة من تعظيمه واحترامه. وما ينسب إليه عظيم ومحترم كذلك؛ فقوله قل أن يخالف، ووصيته ندر ألا تنفذ، لأن المخالفة وعدم التنفيذ معناه الشك في هذا التعظيم الذي صار الآن أمراً مقرراً

وإذا كنا ندعو المدينة بوجه عام إلى دين وإلى تدين فلسنا متحيزين إذا دعونا إلى الإسلام بوجه خاص؛ لأن الإسلام في تقرير الزهد كوسيلة للوصول إلى الخير لم يبالغ في طلبه ولم يعتمد عليه وحده، بل جعل بجانبه تنظيم الانتفاع بهذه الحياة - بعد أن أباح التمتع بها - وعمل على تنظيم علائق الأفراد في دائرة هذا التمتع

وليس القانون، وليس علم الأخلاق؛ وبعبارة أخرى ليست المدينة هي التي كشفت عن (رعاية الصالح العام)، بل من قبلُ وضعها الإسلام في تنظيمه (للمعاملات)

<<  <  ج:
ص:  >  >>