فالقانون إذا لا يرغَّب عن هذه الحياة، ولا يقلَّل من قيمتها، وقلما يعترف بنهايتها أو بتحولها إلى حياة أخرى ثانية. ولهذا رأي مهمته في تنظيم رغبات الأفراد، وفي التسوية في تلبيتها لهم بقدر ما يمكن، دون أن يراها مثلاً في إقناعهم بالعدول عنها إلى متع أخرى ألذ وأشهى وأدوم كذلك في حياة أخرى
والقانون والأخلاق كعلم من أخص مظاهر المدنية الحديثة. وهذا معناه أن المدنية الحديثة تتميز بالميل إلى الاستقلال وبمحاولة هذا الاستقلال، أيضاً، عن الدين وعن العقيدة وعن الفلسفة الميتافيزيقية في فهم (غاية) الإنسان وفي تعيين الطريق لتحقيق هذه الغاية
وكما كان عنوان الدين، أو من لوازم الدين والعقيدة، الدعوة إلى (الخير)، وكما كان من وسائله إلى تحقيق ذلك النصح بالزهد في هذه الحياة، كان عنوان المدينة الحديثة تحديد (الصالح العام) وتقريره ثم محاولة تحقيقه بتنظيم انتفاع الأفراد بهذه الحياة
نظرتان مختلفتان في الحياة، وتوجيهان للإنسان فيها مختلفان كذلك
وربما يبدو أن تنظيم الانتفاع بهذه الحياة بين أفراد الجماعة الإنسانية، وهو محاولة القانون، ليس أشق على طبيعة الإنسان كطلب الزهد منها الذي هو نصيحة الدين؛ والعلاقة الصحيحة بين تنظيم الانتفاع وبين الزهد ليست اليسر من جهة ولا العُسر من جهة ثانية، بل هي تحكم إرادة الإنسان في طرف وإغفالها في طرف آخر. إذ طلب الزهد معناه اعتبار إرادة الإنسان وتحكيمها، بينما تنظم الانتفاع معناه الركون إلى سلطان القانون وتحكمه وحده. فالزهد وإن بدا أنه مظهر سلبي هو عمل إيجابي إذ هو مظهر الإدارة للفرد
وحقاً إذا كانت غاية القانون أو غاية المدينة هي غاية الدين والعقيدة، لأن مآل رعاية الصالح العام، أو رعاية سعادة المجموع، أو تقرير عمل الواجب لذات الواجب هو مآل عمل الخير؛ وحقاً إذا كان في محاولة تنظيم الانتفاع بهذه الحياة بين أفراد الجماعة تحقيق لنتائج الزهد، إذ أن في الرغبة عن متع الحياة أو عن كثير منها تضييق لدائرة النزاع بين الأفراد وهو غاية التنظيم، إلا أن في الدين والعقيدة معنى آخر ليس في القانون وليس في علم الأخلاق، هذا المعنى الآخر هو أن موحي الدين له نهاية الحكمة وكمال المعرفة في نفس الإنسان المتدين أو المعتقد طبقاً لمبدأ التأليه؛ وهذه صفة للمعبود تدع في نفس الإنسان المتدين عدم المناقشة فيما أوحى به الدين كما تدع فيها أيضاً الرضا بما جاء به الدين.