وقضى في ذلك أربعين عاماً لا يفكر في غيره، ولا تحدثه نفسه بما صار إليه حاله بعدها، بل كان راضياً بحالة فيها كل الرضا، إذ كان يجد من زوجه شريكة بارة صالحة، ومن نفسه طهارة واستقامة وقناعة، ومن قومه ثقة وتقديراً وإكباراً، حتى كانوا يلقبونه الأمين تشريفاً له وتعظيماً، وليس بعد هذه الأمور من سعادة للنفس الراضية، كنفس محمد صلى الله عليه وسلم في ذلك العهد فلما جاءه الوحي لأول مرة في غار حراء صادف نفساً لم تكن تنتظره، وكانت مفاجأة أثرت فيها أكبر تأثير؛ فبينما هو قائم في بعض الأيام على الجبل، إذ ظهر له شخص غريب لم يشاهد مثله في حياته، فقال له: أبشر يا محمد، أنا جبريل، وأنت رسول الله إلى هذه الأمة. ثم قال له: أقرأ. فقال: ما أنا بقارئ؛ لأنه كان أمياً لم يتعلم القراءة؛ فأخذه جبريل فغطه بالنمط الذي كان ينام عليه، حتى بلغ منه الجهد، ثم أرسله فقال: اقرأ. فقال: ما أنا بقارئ؛ فأخذه فغطه ثانية ثم قال: أقرأ. فقال: ما أنا بقارئ. فأخذه فغطه ثالثة ثم قال: اقرأ باسم ربك الذي خلق. خلق الإنسان من علق، اقرأ وربك الأكرم، الذي علم بالقلم، علم الإنسان ما لم يعلم
ثم اختفى جبريل بعد هذا الوحي الأول، ورجع محمد صلى الله عليه وسلم وقد بلغ ذلك من نفسه مبلغه، لأنه فوجئ به مفاجأة ولم يكن يعرف من هو جبريل، لأن ذلك لم يكن معروفاً بين قومه. وهو اسم غريب لا يمت إلى العربية بصلة، فسار إلى خديجة يرجف فؤاده مما ألم به من الفزع، فدخل عليها فقال: زملوني زملوني. فزملوه حتى زالت عنه هذه القشعريرة، وذهب عنه الفزع، ثم أخبر خديجة بأمره من أوله إلى آخره، وخشي على نفسه أن يكون أصابها شيء؛ وألا يكون هذا الشخص ملكاً من ملائكة الله تعالى. فطمأنته خديجة رضي الله عنها، وقالت له: كلا، والله ما يخزيك الله أبداً؛ إنك لتصل الرحم، وتحمل الكل، وتكسب المعدوم، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق، فلا يسلط الله عليك الشياطين أو الأوهام، ولا مراء أن الله اختارك لهداية قومك.
فاطمأن محمد بهذا الكلام الطيب من تلك الزوج البارة؛ واطمأنت خديجة على زوجها بعد أن زال عنه ما ألم به من الفزع؛ ولكنهما أرادا أن يزيدا اطمئناناً بعلم العلماء من قومهما، وأن يستفتيا منهم من له علم بحال الرسل ممن اطلعوا على كتب الأقدمين. وهنا يمد