الإسلام يده إلى العلم من أول يوم يولد فيه، وتظهر فضيلته في مؤاخاة العلم والاعتراف بالحاجة إليه في هذه الدنيا. فلا يكون هناك عداء بين العلم والدين. ولا يقف أحدهما حجر عثرة في سبيل الآخر. وهذا هو الذي حصل في تاريخ الإسلام إذ كان يفهم فهماً صحيحاً، ولا يتسلط فيه متنطعون يعادون العلم باسم الدين، والدين براء مما يصنعون
وكان لخديجة ابن عم من علماء قريش يقال له ورقة بن نوفل، وكان امرأ قد تنصر في الجاهلية، وكان يكتب الكتاب العبراني، فيكتب من الإنجيل بالعبرانية ما شاء الله أن يكتب. وكان شيخاً كبيراً قد عمى وانقطع للعلم، وأخلص له نفسه فصفت به وطابت، حتى أورثها تواضعاً وإذعاناً للحق، وبعداً عن المراء والتمادي في الباطل، وكراهة للتعصب الممقوت، وبغضاً للجمود على القديم، ومعاداة الإصلاح والمصلحين
فأخذت خديجة زوجها إليه، وقالت له: يا ابن عم، اسمع من ابن أخيك
فقال له ورقة: يا ابن أخي، ماذا ترى؟
فأخبره عليه السلام خبر ما رأى
فقال له ورقة: هذا الناموس الذي نزله الله على موسى؛ لأنه يعرف أن رسول الله إلى أنبيائه هو جبريل
ثم قال: يا ليتني فيها جذع، إذ يخرجك قومك من بلادك التي نشأت بها، لمعاداتهم إياك، وكراهيتهم لك حينما تطالبهم بتغيير اعتقادات وجدوا عليها آباءهم
فاستغرب عليه السلام ما نسبه ورقة إلى قومه من معاداته، مع ما يعلمه من حبهم له، لاتصافه بمكارم الأخلاق وصدق القول حتى إنه لم يلق منهم أذى في هذا العمر الطويل الذي قضاه معهم، فقال لورقة: أو مخرجي هم؟
فقال له ورقة: لم يأت رجل قط بمثل ما جئت إلا عودي، وإن يدركني يومك أنصرك نصراً مؤزراً
وهكذا مد العلم يده إلى الدين حين مد الدين يده إلى العلم، فآمن به حين مد يده إليه، وزاد في يقينه حين طلب منه أن يزيد فيه، وبذل له المعونة التي يريدها، وتطوع لنصره إذا صادف من أعدائه إنكاراً، وأثبت بذلك أن العلم الصحيح لا يعادي الدين، كما أن الدين الصحيح لا يعادي العلم، لأن الغاية منهما واحدة في هذه الحياة، وهي الوصول إلى هناءتها