أما الحقيقة التي لا شك فيها فهي أن البنية الإنسانية تحس ما يهددها من الأخطار الدخيلة قبل وقوعها في بعض الأحايين. كما يقول أبن الرومي:
وللنفس حالات تظل كأنها ... بما سوف تلقى من أذاها تهدد
فتحس الأمراض المقبلة والعلل المنذرة، ولا تدري لإحساسها سبباً في كثير من الأحوال، وإن كان هذا الإحساس مقدمة للعلة وعرضاً سابقاً من أعراضها بغير نزاع
وقد يهزأ بعضهم بتطبيق أبن الرومي لرأيه حين يقول:
لما تؤذن الدنيا به من صروفها ... يكون بكاء الطفل ساعة يولد
وإلا فما يبكيه منها وإنها ... لأرحب مما كان فيه وأرغد
ولكنه على ما نعتقد هزؤ ظالم أو مبالغ فيه، لأن الأسباب الطبيعية التي تدعو إلى بكاء الطفل عند ولادته هي مقياس لسنة الدنيا في اقتران كل وظيفة بجهد ناصب، وفي تقاضيها ثمناً لكل فتح من فتوح الحياة. فهي شيء ملازم للبنية الحية، يدل عليه أن أول تنفس للهواء هو أيضاً لون من ألوان البكاء
غير أن إحساس الإنسان بما سيصيب بنيته شيء وإحساسه بما سيصيب الدنيا شيء آخر، ولا سيما ذلك الإحساس الذي يدعيه المنجمون
والمسألة بعد لا تخلو من عزائها وسلواها، فإذا أمتعض أناس منا لما يرونه من تهافت جهلائنا على العرافين والمشعوذين فهذه أوربا تهون عليهم مضضهم بإقبال أهلها (المتعلمين) على لغو العرافة والشعوذة وإقبال صحفها الكبرى على باب من الأبواب مقصور عندنا على منشورات يزهد فيها العقلاء!