سبحانه على علم المشرك الدعوة أولاً، ثم على إعطائه فرصة لتدبرها في أمن وحرية ثانياً، فالعلم بالدعوة على وجهها كما يدل عليه قوله تعالى (حتى يسمع كلام الله)، وتدبر الدعوة في حرية وأمن كما يدل عليه قوله تعالى (ثم أبلغه مأمنه)، هما ركنان للدعوة الإسلامية يدل عليهما دلالة واضحة العلة التي بنى الله سبحانه عليها أمره في قوله (ذلك بأنهم قوم لا يعلمون)
وإذا عرفت الآيات قبل هذه الآية وما تأمر به من تأجيل المشركين أربعة أشهر يسيحون في الأرض، حتى إذا انسلخت الأشهر الحرم - والسورة العزيزة نزلت وتليت على الناس في الحج وفيه المشرك والمسلم - قتل المشركون بكل وجه وقعد لهم كل مرصد، إلا أولي العهد فيوفى للموفين منهم عهدهم إلى مدتهم: إذا عرفت هذا عرفت الحكمة البالغة الكامنة في ذلك التعليل الإلهي لذلك الأمر الإلهي
إن ذلك التعليل مظهر من مظاهر العدل الإلهي في الدين والرحمة في الدعوة، إذ ما كان الله ليأمر بقتل حتى المشرك قبل أن يدعى إلى الله دعوة مؤثرة. واشد الكلام تأثيراً في نفس العربي هو كلام الله العربي المنزل، لذلك أمر الله نبيه حين أراد تطهير الأرض من الشرك أن يجير المشرك حتى يسمع كلام الله. ثم ما كان المشرك ليقتل حتى يأنس إلى كلام الله، بعد سماعه، مدة قد يجد فيها كلام الله إلى نفسه سبيلاً. وهذا ليس من العدل فقط. بل ومن الرحمة والحكمة؛ وهو في ذاته دليل على أن هذا الأمر للنبي هو من عند خالق النفس وعالم ما هي وما فطرت عليه. فقد علم الله سبحانه بعد ما بين الدعوة إلى الإسلام وبين ما نشأ المشرك عليه، وعلم أنه إن كان في المشركين من أوتي من صفاء العقل ما يدرك به عند سماع الدعوة فضل ما بينها وبين ما هو عليه، فيستجيب لها غير متردد، ويدخل في الإسلام غير مسوف، فإن في المشركين أيضاً الرجل العادي وهو سوادهم: ينفر نفسه مما لم نألف، ونكون له كبوة عند الدعوة مهما بلغ فضلها من الوضوح وبلغت هي من الإشراق. فلو أخذ المشرك بأول رأيه أو شعوره عند سماع كلام الله لكان نصيب أكثر المشركين القتل. لكن الله سبحانه وتعالى أجلهم حتى يأنسوا بكلامه ويتدبروه ويتذاكروه بينهم فعندئذ تكبر فرصة استجاباتهم له بعد أن يزداد فهمهم إياه، ويزول النفور الأول الناشئ عن مخالفة الدعوة لمألوفهم على وضوح خطئه وصوابها، وضعته وشرفها. وفعلاً