للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

معادية لهم مريدة الشر دائماً بهم، جاهدة أن تضع في سبيلهم العوائق والعراقيل، كأن رب الأقدار مولع بالتنكيل والعذاب يصبه على من يخرجهم إلى رحاب ملكوته، مغرم بفرض الأوامر والنواهي التي لا معنى لها إلا إظهار السلطان وإرهاق عبده الإنسان! فهم لذلك حريصون على اهتبال اللذات خلسة وجهرة، وعلى الثورة على الأوامر والنواهي تحرراً وانطلاقاً. . .

وقد وقر في الأذهان كذلك أن الدنيا لا احتمال لمكارهها وآلامها وتكليفاتها، ولا طاقة للقلوب البشرية على حمل أماناتها وأعبائها، فاجتزت الأفكار معاني العجز والكسل والتسليم الذليل القاصر الذي لم يحاول شيئاً أمام ما زعموه سلطة القدر، ورددت الأفواه ألفاظ الجزع والهلع والضعف والقنوط والهروب من مواجهة الحياة، وجلس الرجال، نعم الرجال! عنصر الكفاح في الحياة مجالس الأطفال القاصرين العاجزين على التراب يبكون ويئنون ويضمرون الغيظ الأليم من الحرمان، وينظرون إلى السماء نظر الفقد والثكل حتى يوم الإقبار. . .

ومن هذه الفكرة الواحدة الأساسية الأولى ولدت جميع المصائب والمكاره التي ضاعفت سواد الحياة في نظر الناس وجعلتها سلسلة من الآلام، وأخرجتها مخرج المأساة الدامية التي يدور فيها سوط القدر على ظهورهم وسيفه على رقابهم. . .

كانت نتائج هذا الفهم المخطئ والوضع المغلوط لهذه الفكرة الأولى، ذات أثر عميق في مجرى الحياة يتصل بالعقائد الأصلية فيها: وهي العقيدة في الحياة نفسها، والعقيدة في واهبها، والعقيدة في الإنسان. . .

فأما العقيدة في الحياة فقلما تحظى من فكر الفرد أو فكر الأمة أو فكر الإنسانية بما يجب لها من التأمل والفهم قبل البدء بالسير في طريق الحياة. . . أعني عند تفتح المدارك وابتداء عهد الرشد وإدراك النسب الكثيرة بين الأشياء. . .

وإنك إذا سألت أكثر المتعلمين - دع الجاهلين - عن مدى فهمه لحياته وإحساسه بها، وعن الفكرة الأولى التي بنى عليها معاني نفسه، ووجه إلى قطبها إبرة قلبه، وأدرك أنها هدف الإنسانية جميعها وجدت أكثرهم يتلجلج ولا يكاد يبين؛ لأنه دخل الحياة في ذهول الطفولة، ثم درج إليها في عبث الشباب، ثم أخذته غمرة مشاغل الجماعة في عهد الكهولة، ثم هدمته

<<  <  ج:
ص:  >  >>