للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

لقد تمتعت على الأقل بأحلام الفاقدين وأنها لمتاع أي متاع! وتطلعت إلى عالم الانطلاق وأنا في القيود. . . وأدركت الباقي الخالد حين أدركت الفاني البائد. . .

وإنها لمعانٍ جديرة أن يخرج إليها الإنسان باختياره من سكون العدم وجموده، ويقتنيها ببعض الآلام والمكاره، ويصطبر على الحياة من أجلها حتى توفى إلى غايتها، ويبالغ دائما في حب من أخرجه إليها. . .

ولكن أفي الحق أن طبيعة الحياة تحمل هذا الجانب البالغ من المكاره التي يزعمها الناس ويتوارثون الحديث عنها ويفيضون فيه شعراً ونثراً وحكماً ووصايا وأمثالاً؟ أم أن تلك المبالغة من جناية الإنسان الظلوم الجهول على الحياة وعلى نفسه وعلى واهب الحياة وبارئ النفس؟

أم إنها من جناية (تجار الكلام!) وحدهم الذين يرسلون زخرف القول غروراَ لا يبالون ما فيه من الصدق أو الكذب ما داموا قد عبروا فيه عن حالة من مكارههم وسوداويتهم، وما داموا قد أرضوا غرامهم الفني بحسن الصياغة والإغراب في المعاني والإتيان بغير المألوف وإرسال الخيال في أودية الأوهام والضلال؟

أما اعتقادي فهو أن الآلام الأصيلة في طبيعة الحياة قليلة جدا لا تتعدى ما يتصل بالكوارث الطبيعية والأمراض. وإن كانت الكوارث الطبيعية والأمراض قد تغلبت على الإنسان قديما فهو الآن مستطيع دفاعها والتحصن منها وتقليل آثارها إلى حد كبير، فلا داعي لاجترار أقوال المتشائمين القدماء.

وقلما تصيب الأمم كارثة طبيعية الآن. ولن يبلغ مجموع الكوارث الطبيعية عشر معشار ما كسبت أيدي الناس وما بغى به بعضهم على بعض

فأكثرية آلام الإنسان ناشئة من جناياته هو على نفسه وعلى جنسه، فهو يجني على نفسه بالإفراط في اللذات والشهوات حتى يتهدم جسمه، وبالتفريط في وقايتها من أسباب الأمراض حتى يدب إليه المرض وآلامه ويتسرب منه لذريته

وهو يجني على جنسه بالشره والطمع فيما ليس له، وبالتوزيع الظالم للثروة، وباغتصاب حقوق الضعفاء والعجزة الذين لا يستطيعون حيلة، ويجب الغلبة والتسلط وإهدار الدماء وإهلاك الحرث والنسل في سبيل ذلك، وبتلويث الذرية بالأمراض الخبيثة، وبالنزاع

<<  <  ج:
ص:  >  >>