ما لي ولهذه الخواطر المزعجات؟ وهل قلت المتاعب الجديدة حتى نؤزرها بمتاعب قديمة تأخذ وقودها من الذكريات؟
أرجع إلى الغرض مرة ثالثة فأقول:
قبل الشروع في تلخيص كتاب شيث بن عربانوس أسجل أني غير مطمئن إلى إنه ألف في العصر الذي تلا الطوفان - وما أقول بأن ذلك مستحيل - فقد يكون من الممكن أن ننظر إلى الطوفان من وجهة معنوية، فنعده مرحلة من مراحل الغفوات الروحية في الحياة الإنسانية، ونعد العصر الذي تلاه عصر يقظة ونهضة وإحياء، وعندئذ يصبح من السهل أن نفترض أن ذلك العصر يصلح لما صدر عن شيث بن عربانوس من أفكار وآراء
ولكن هنالك عقبة تمنع من ذلك الافتراض، وهي إجماع الكتب الدينية على أن الطوفان وقع بالفعل، وأنه لم يبق من السلالة الإنسانية إلا ما حفظته سفينة نوح. . . ومن الواضح أن تلك البقايا كانت في شغل بتدبير حياتها المعاشية؛ فمن العسير أن نتصور أنها عرفت التأليف والمؤلفين إلا أن توغلنا في شعاب الفروض!؟
يضاف إلى ذلك أن المصادر التي تحت أيدينا لم تتحدث عن شيث بن عربانوس؛ ولم نسمع أن اسمه ورد في كتب المستشرقين - وهم حجة فيما يتصل بمجاهل التاريخ في الشرق - وقد يعرفون منه ما يجهل الشرقيون!
فأين وجد زكي باشا ذلك الكتاب؟
كان في النية أن أوجه إليه هذا السؤال، ولكن المنية عاجلته فقضت بأن تطول الحيرة في مصدر ذلك السفر الغريب
وفي الحق أني غير مصدق لكتابٍ لغته العربية مع إنه ألف بعيد الطوفان
وهنا أذكر حادثةً في نهاية من الغرابة، ولكنها وقعت على مسمع من جمهور كبير في أروقة السوربون يوم أديت امتحان الدكتوراه في الخامس والعشرين من أبريل سنة ١٩٣١؛ فقد حاجني المسيو ماسينيون حجاجاً عنيفاً حين رآني أنكر أن تنشأ اللغات بالتوقيف. . . وإن عادت الدنيا إلى ما كانت عليه ورايت المسيو ماسينيون بعافية فسأراجعه في هذا الحجاج؛ فما يستطيع ذهني أن يبغ فكرة التوقيف؛ وإنما أعتقد أن اللغات ظاهرة إنسانية يصنع بها التطور ما يصنع على اختلاف الأجيال