للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

يؤلمني أن أكون أحد المتحفزين للدخول في صفقة كهذه. ولم أكد أبتعد خطوتين، حتى أعود فألقى عليها نظرة أخيرة، فأجد سيارة ضخمة لها طنين العظمة والكبرياء تتباطأ رويداً رويداً، ثم نقف عن الحركة، ويتحرك بابها، ولا ينزل منه أحد. . . لقد حجبت عني هذه السيارة منظر الفتاة، فقفزت كذلك خطوتين بعض الشيء، وخيل إلي إنها تسأل عن الثمن. . . وأخيراً تقفز إلى جوار السائق وتندفع السيارة بصيدها الحرام، مخلفة وراءها عثاراً مشيعاً بدخان العظمة والكبرياء. . .

ويضيق صدري، فأمشي مسلوب العاطفة والفكر معاً. أمشي أنا أيضاً على غير هدى، هنا وهناك لا ألوي على شيء. وفجأة أسمع طنيناً بعيد إلى صوابي، فأدرك أن حياتي كانت معرضة للخطر، كنت مهدداً بالفناء من هذه السيارة الماجنة، فقد وقفت مني على بعد أمتار. وألقت صيدها المذبوح إلى الطريق! وعلى غير وعي مني أتبع خطواتها، فهي تسير في نفس الاتجاه الذي يصل بي إلى مسكني. ولكني لا آبه بالوقت، ولا بحاجتي إلى الراحة، وأتابع السير وراءها حتى تعرج على دكانه تبيع (سمكا مشويا) ثم إلى بائع الخبز فتبتاع منه حاجتها. . . وتواصل السير وأنا أتبعها. . . لقد اندفعت اندفاعاً غريباً لأعرف شيئاً عن قصتها. سلكت شوارع مظلمة، وحارات، ودروباً ما كنت أتصور أن القاهرة، هذه المدينة الجميلة الضاحكة. . . ذات القصور والفنادق والملاهي والأحياء التي تضارع أرقى العواصم في الغرب، هذه المدينة التي يسمونها كذباً وتضليلاً عروس الشرق، تضم هذه المباءات القذرة، تلك التي لا تجد لها مثيلاً بين زنوج أفريقيا أو بلاد نيام نيام أو أي أرض شئت

وأخيراً أراها تحيي أمها العجوز، وتنحدر إلى باب مسكنها الغائر في بطن الجبل. فأتذكر المرأة التي أمر بها كل يوم وهي جالسة إلى صندوق القمامة تفتش فيه جاهدة عن شيء يؤكل، والرجل الذي تسلل إلى فضلات طعام إحدى الفرق المعسكرة، فأرداه الجندي صريعاً بالرصاص. والفلاح الذي يأكل الحشائش من الأرض كالحيوان. والعامل الذي يقسره الجوع أن يسرق قطعة من (العجوة) ليبلع بها رغيفه. . . كل أولاء كهذه المرأة هم في العذر والحاجة سواء. لقد فقدوا كل إحساس لأنهم جياع فما يهمهم عرف ولا قانون. وهل في عداد القوانين التي تنظم حياة المجتمع قانون واحد يجنب الفقير عواقب الشطط!! آه. .

<<  <  ج:
ص:  >  >>