للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

لقد تذكرت! هناك السجون! وهل رأيت في السجون إلا فقيراً أو محروماً أو مطروداً؟ هذه السجون بنيت لفريق واحد من الناس، وليس هذا الفريق من الأغنياء!

وعدت إلى داري مهموم القلب، يحتدم بيني وبين نفسي عراك عنيف: إنها ساقطة. . . بغي. . . عاهرة تفسد في الأرض. أثور، وهي تهدئني: (ألا تدري أن صفقة كهذه لا غبار عليها، ما دام الخمر والجوع هما وسيطاها! إن الخمر والجوع كليهما كأس يثمل شاربها. فكل كأس من الخمر رصيد من العرق أو الدموع! فلم لا ترى مثل هذا يحدث على الشاطئ الغربي من النيل. . . حيث تقوم القصور الشاهقة مطلة على الأكواخ والكهوف لا محل للأسطورة القديمة التي كانوا يسمونها الفضائل، والشرف. والكرامة. والمروءة! كل هذه أكاذيب قد عفت منذ زمن بعيد. إن الإنسانية تتقدم، وتتطور، دائماً، دائماً، حتى في تجارة الرقيق. ولكنها تجارة منظمة. أجل تجارة منظمة تتفق وأسلوب القرن العشرين. . .

لا يا صاحبي، إنها إنسانة لابد لها من القوت لتعيش. ومن يدري؟ ربما أعيتها الحيل في البحث عنه. أذلتها الحاجة. والجواب بغير ثمن ليس من طبيعة هذا العصر، ولا من تعاليمه. فما الكرامة، وما الشرف، وما العرض، أمام الحاجة الملحة للطعام؟ وما دمنا قد رضينا أن يحيا كل إنسان لنفسه، فليس لك أن تلوم المرأة العاطلة، التي لا عائل لها ولا قانون يحميها، إذا انغمست في الظلام تفتش عن شيء أعياها البحث عنه في النور. إن لغة العطف والرحمة لم تعد من مصطلحات هذا الزمن. فالرجل القادر على أن يمنح العطف والرحمة في شكل كسرة تمسك الرمق أو ثوب يستر الجسد قد طغت عليه تكاليف المدنية، فهو يرى أن (جالوناً) من البنزين لسيارته، أو كأساً من الشراب يذهب بصوابه، أو حفلة ساهرة ترمز إلى عظمته، أحق وأولى من معونة لا يطالبه بها القانون، ولا تعترف بوجوبها الدولة!

صدقني إذا قلت لك: إن يد المدنية الحديثة قد قلبت صفحة الزمن، فطوت معها كل أثر للفضائل في العهد القديم. نحن الآن أمام صفحة جديدة، تختلف في تعاليمها ومراميها، وليس من معانيها شيء اسمه الرحمة!!

إن القوة الآلية التي جعلت الثروة تتركز في يد عدد قليل من الناس، وتتزايد بأرقام مخيفة، هي بعينها التي سلبت الكثرة الهائلة النزر الضئيل الذي بيدها حتى باتت تبحث عن

<<  <  ج:
ص:  >  >>