على العادات والتقاليد الموروثة، فقد عرضت نفسها لعوامل الانحلال والفناء.
هي إذن معركة حامية الوطيس بين طبيعتين متقابلتين: طبيعة الخضوع للعادات والتأثر بسلطانها، وطبيعة الحياة التي تطلب إلى كل حي أن يسايرها ويتدرج معها، ولا بد من تدخل العقل للفصل في هذه المعركة ووضع علاج يوجد به التوازن بين هاتين القوتين الضروريتين للإنسان. لا بد أن نزن كل شيء بميزان العقل، وان نسترشد بنور هداه في كل طريق نسلكه، وأن ننزل على حكمة راضين غير متبرمين
في كل أمة دعاة إلى الإصلاح يقفون منها موقف المرشد الناصح، ويعكفون على مشاكلها ليضعوا لها الحلول، وعلى أمراضها ليصفوا لها العلاج
وكثيرا ما يقع بين الناس وبين هؤلاء الدعاة المنادين بمبادئ الإصلاح خلاف، وقد يؤدي هذا الخلاف إلى إثارة المتاعب ووضع العقبات في طريقهم، بل قد يؤدي إلى التشكك في نياتهم وأغراضهم وانصراف النفوس عن دعوتهم. ولست أرى في ذلك شذوذاً، وإنما هو شيء طبيعي، لأن المصلح الداعي إلى الخير يحاول أن يلفت الناس عما ألفوا. يحاول أن ينتزعهم من أحضان عادات حبيبة إلى نفوسهم، عزيزة عليهم. يحاول أن يصادر الأهواء والنزعات وشهوات النفوس، فلا عجب أن تكون دعواته ثقيلة على الأسماع، كثيرة الخصوم والمستهزئين.
وقديما جاء محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى العرب بدين العقل والفطرة والسيادة والعزم والكرامة الإنسانية، فقاوموه ووقفوا في سبيل دعوته استكبارا أن يتركوا ما ألفوا، أو ينخلعوا مما ورثوا، وقالوا: أنا وجدنا آباءنا على أمة وأنا على آثارهم مقتدون! ولم يقفوا عند هذا الحد بل زعموا انهم لا يدركون ما يقول، وان قلوبهم في أكنة مما يدعو إليه، بل رموه بالكذب والافتراء وهم الذين لقبوه من قبل بالصادق الأمين؛ ورموه بالجنون وهم يعلمون أنه أقواهم عقلاً وأعظمهم رشادا.
هكذا قابل الناس دعوة سيد المصلحين، وبمثل هذه الدعاوي والتهم واجهوه. والتاريخ يحدثنا عن كل مصلح بمثل ما حدثنا به عنه، فكم شرد المصلحون وعذبوا، وكم أوذوا واضطهدوا، وكم قذفوا بالتهم، ودبرت لهم المؤامرات، وحيكت من حولهم الاكاذيب، فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله وما ضعفوا وما استكانوا، والله يحب الصابرين.