للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

لا بد لدعاة الإصلاح إذن من الصبر وتحمل المشاق، ولكن هذا وحده لا يكفي، لا بد إلى جانبه من اللباقة وحسن التصرف وتقدير الظروف والأحوال حق قدرها؛ وإنما يكون ذلك بالتدرج دون الطفرة. لقد تدرج القرآن بالمسلمين من قبل، فكان ينزل أولاً في بيان العقيدة والاستدلال عليها؛ وكان ينزل بمكارم الأخلاق؛ وكان ينزل في الزراية على العادات الذميمة. ثم جعل - بعد أن استقرت الدعوة - ينزل بتشريع الأحكام شيئاً فشيئاً، حتى أن قوله تعالى: (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا)، لم ينزل إلا في العام الذي توفى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهو لم يفاجئهم بالدين كاملا قد استوفى جميع مبادئه وأحكامه، ولو فاجأهم بذلك لفشلت دعوته، وقل أنصاره وحماته!

لقد تناولت هذا المعنى في مقال لي قبل اليوم، وإنما أسوقه الآن ليتخذ منه المصلحون عبرة وليعرفوا ما فيه من موضع الأسوة الحسنة، فيتدرجوا بالأمة كما تدرج القرآن

لقد بدأ هذا الدين غريبا، وهاهو ذا يعود غريبا كما بدأ: أصبحت تقاليدنا غير تقاليد الإسلام، وأخلاقنا غير أخلاق الإسلام، وأحكامنا غير أحكام الإسلام، وقوانيننا غير قوانين الإسلام. أصبحنا نحرص على العادات التي ورثناها عن الآباء والأجداد أكثر من حرصنا على الدين. وإن أحدنا ليثور ويتألم إذا حاول محاول أن يصادره في عادة من عاداته، ولا يثور إذا اعتدى معتد على دينه، زاعماً أن للدين ربا يحميه، وما يريد بذلك إلا تبرير سكوته على العدوان وإيثاره للسلامة!

عندما أبطلت عادة الاحتفال بالمحمل انقطعت العلاقة بيننا وبين حكومة الحجاز، وظل حكامنا ووزراؤنا معنيين بهذا الشأن في كل مفاوضة لإعادة هذه العلاقة، حتى إذا نجح وزير من وزرائنا في إعادة الاحتفال بالمحمل وإرسال الكسوة عددنا ذلك ظفراً بتبادل الناس التهنئات بالتوفيق إليه، ولكننا مع هذه الغيرة الشديدة على تقليد من تقاليدنا نرضى بهذه التشريعات المجلوبة، والأوضاع المقلوبة، والنظم المستعارة! نرضى بشرائع فرنسا وبلجيكا ونحن أمة القرآن!

يتساءل الناس: ماذا نصنع لكي نعود إلى أحضان الإسلام ونعمل لمبادئ الإسلام؟ ماذا نصنع ليعود التشريع الإسلامي مصدرا للقانون العام في مصر والشرق؟ ماذا نصنع

<<  <  ج:
ص:  >  >>