للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

ولكن علماء الاجتماع لم يرضهم هذا الرأي أو ذاك، لأن العوامل النفسية والاعتقاد بوجود قوة خالقة ومدبرة لهذا الكون لا يمكن اعتبارها أساساً ومصدراً للأديان، فهناك أديان كبيرة كالبرهمية والبوذية - نشأت وانتشرت ولم تزل تعم جزءا كبيراً من العالم، على رغم إنها خالية من مثل هذا الاعتقاد. ونرى أيضاً أن هناك أدياناً متعددة عند الأمم المحدودة المدنية

- كالقبائل الأسترالية والزنجية وغيرها - لها أوضاع وأسس تشبه في كثير من ظواهرها الأديان الكبيرة، لأنها قادرة على التمييز بين الحلال والحرام وأمر القيام بعبادات منظمة؛ وهذه الأديان أيضاً لم تقم ولم تحدد بمثل ما تتقيد به النصرانية أو الإسلام من ضرورة الشعور بوجود هذه القوة الذاتية؛ وكما إنها لا تشعر الفرد بأن هناك قوة روحية كامنة في الإنسان وخارقة للعادة تدفع الزنجي أو الأسترالي إلى حب غير بني جنسه كما يعمل الصوفي في اليهودية أو النصرانية. فالزنجي أو الأسترالي يتقرب لأبناء جنسه ويفنى فيهم لأنه لا يرى سواهم حوله، فقبيلته هي كل شيء كذلك حين يقدس هذا الزنجي معبوده (أي توتمه) ويفنى فيه بحبه له، يفعل ذلك، بل وأكثر من ذلك، لأن معبوده هو رمز قبيلته، وأن الفرد والقبيلة هما وحدة لا تتجزأ. وأما الصوفي فحبه الشامل للكون وتفانيه في القوة الخافقة له، لأنه مجبر على الإحساس - دون وعي لحالته - بهذا الشعور، لأن الجماعة التي يعيش فيها تلهمه ضرورة حب غيره من عامة البشر، بل وحب الكون عامة، لأن هذه الجماعة هي خلاصة العناصر المادية والروحية للإنسانية كلها، ولأنها رمز قوة الكون، لذلك كان هم الصوفي أن يسعى ليفنى في هذه القوة ذاتها.

من أجل ذلك يقرر علماء الاجتماع أنه إذا فرض واعتبرت الجماعة البشرية مصدر الأديان مهما اختلفت عصورها وتباينت بيئاتها فقد يكون في ذلك حالة أدعى للطمأنينة وأدنى للصواب حين يعمل الإنسان لكشف حقيقة الأديان وتحليلها إلى عناصرها الأساسية، وفي هذا الاتجاه سار إميل دركيم وتلامذته بفرنسا.

وهذه وإن كانت محاولة جريئة قد تهيئ لنا مجالا أوسع للبحث والتنقيب عن أصل كثير من الظواهر الدينية ومعتقداتنا وأساس إيماننا.

ولم يكن حظ الجغرافيا البشرية أوفر من حظ علم تاريخ الأديان من حيث القدرة على استخلاص قوانينها العامة والاسترسال في تحقيقها. فكثير من الجغرافيين يرون أن البيئة

<<  <  ج:
ص:  >  >>