وخواتيم الياقوت، ثم تمارضت من غير سقم، وتعالجت من غير حاجة منها إلى الدواء لتجيئها هدايا ذوي الوجد، من القمص المعنبرة، والغلائل الممسكة، والأردية المرشوشة، ومخانق الكافور، والمسك الأذفر، والعنبر الأشهب، والعود الهندي، والماورد الجوري، والفراريج، والجداء الرضع، والدجاج الفائق، والفراخ المسمنة، والفاكهة والرياحين؛ يتبعها صنوف من الشراب: من العسل والمطبوخ والمشمس، ثم تلحقها الدنانير والدراهم، فلا تزال في هدايا متواترة، وألطاف متتابعة. حتى إذا نفد اليسار وذهب الإكثار، وأتلف المال وجاء الإقلال، وأحست بالإفلاس. . . أظهرت الملل، وتبرمت بكلامه، وضجرت بسلامه، وتفقدت منه الزلل، وتتبعت عليه سقطاته، وأخذت في الجفاء والعتاب والقلى والإبعاد، وصرفت عنها هواه ومالت إلى سواه، فحينئذ يدرك المغرور الندم والأسف.
ولقد كانت القيان ينظرن إلى المال، وكن يحتملن القبح والشيب مع اليسار ويكرهنهما مع الفقر. وهذا شأن الحسان كلهن. . . (فليس للفقر مع الحب عمل)
وربما اجتمع عند القينة من مربوطيها ثلاثة أو أربعة، وعندئذ يتحامون الاجتماع، ويتغايرون عند الالتقاء، فتبكي لواحد بعين، وتضحك للآخر بالأخرى، وتغمز هذا بذاك، وتعطي واحدا سرها، والآخر علانيتها، وتوهم أنها له دون الآخر، وتكتب لهم عند الانصراف كتبا على نسخة واحدة تذكر لكل واحد منهم تبرمها بالباقين وحرصها على الخلوة به دونهم جميعاً.
وبعد، فما رأيت ابرع، ولا أحسن، ولا أرق، ولا أملح، ولا أنفذ في العواطف، ولا أكسب للقلوب من هذا الوصف. حتى لتحسب أنك أمام عالم نفسي لا يدع غمزة ولا إشارة ولا عاطفة ولا حيلة إلا أحصاها. وليت شعري أكان الجاحظ والوشاء عاشقين للقيان لقيا في سبيلهما الجهد والعناء، فثأرا منهن بهذا الوصف؟ وكأني بالجاحظ (وهو الذي عابوه بملك القيان) قد تيمه هواهن، وأذبل غصنه حبهن. . . أو أنه رأى عن قرب ما كن يصنعن.
فقال:(ولو لم يكن لإبليس شرك يقتل به ولا علم يدعو إليه ولا فتنة يستهوي بها إلا القيان لكفاه) ثم يستدرك فيقول (وليس هذا بذم لهن، ولكنه من فرط المدح، وليس يحسن هاروت وماروت، وعصا موسى وسحرة فرعون، إلا دون ما يحسن)
على أن الجاحظ إذا قسا عليهن فقد اتخذ لهن أعذاراً. قال: (وكيف تسلم القينة من الفتنة، أو