للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

أبداً ترى عصافير متحدة في الشكل والصوت تطفر على الأشجار والأعالي. . .

وأبداً وترى هذه الدار مأهولة بالشمس والقمر والنجوم. . . نجوم السماء ونجوم الأرض. . .

الأرض دائماً تقرع بالأقدام، والصبح دائماً معه صوت الطير. . .

أبداً فيك يا دنيا شباب متوجون بالطرة السوداء والغرة المشرقة، والشفاه الباسمة. . .

أبداً يلعب الأطفال في أمكنة اللعب ويتصايحون عرابيد مهاراً في الملاعب. . .

أزور دائماً أمكنة طفولتي فأجدها عامرة بالأطفال الذين احتلوا مكاني أنا ورفاق صباي. . .

أتراني أرى دوام هذا الكون العظيم. . . هذا الضياء الغامر الفياض، هذا الليل الرائع الجبار. . . هذه الرياح العاتية الجارفة الزخارة. . . هذا العباب الهدار الرجاف الرجراج. . . هذه الصحراء الطامسة الفاغرة. . . هذه الجبال الراسية الشامخة. . . هذه السماء الرحبة البعيدة المدى. . . ثم أرى ذاتي إزاء هذه العوالم ضئيلاً ضعيفاً فانياً ثم لا أصرخ في وجهها صرخة تدوي بها هبوات الرياح، وتتلقفها الجبال، وتذهب أصداؤها في الأعماق والأغوار. . . صرخة تتمثل فيها كل معاني إحساسي بفنائي وضعفي وضياعي بينها من غير سند ولا عاصم أعتز به وأطول وأصول؟!

لماذا تبقين وأنا أذهب؟ وتتجددين وأنا أبلى؟ وتبصرين هذا الجمال الدائم وأنا أعمى وأطمس؟ وتسمعين أصوات هذه الحياة العجيبة وضجتها وأنا أصم؟

لماذا تتوجين دائماً بلآلئ الصباح وذهب الضحى ورصائع النجوم، وتتجملين بأصباغ فاتنة من وهج الظهيرة وطفل الأصيل وشفق المساء، وتتعطرين بأنفاس الأزهار. . . وأنا أجرد من حلي وغرتي وطرتي، وتنصل أصباغي، وتتفكك أعضائي، وتحبس روحي عن هذا الوجود. . . حتى أنتهي إلى أن أنظر الكون من محجري جمجمة يسكنها الفراغ والظلام، وتسكن هي في أعماق حفرة ضيقة تضحك لظلامها بفكين مجرودين مقبوحين حتى تمسها يد البلى فتتركها رفاتاً سحيقاً بعد أن تمل الظلام ويملها؟!

لماذا تمنحين ما أحرم وأنت عديمة القلوب والعيون، وأنا ذو القلب الراقص دائماً على خفق الأدواح وصفق الرياح، الجائع دائماً إلى الأحاسيس والمعاني المعلنة والباطنة، وذو العين الرائدة الباحثة عن الحركات والألوان وسمات الوجوه وأشكال الأجسام!

<<  <  ج:
ص:  >  >>