للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

النبوة لا تصح إلا لمن يقف موقف الراعي من الرعية، وليس في الجنة جنود وأتباع يحتاجون إلى من ينظر في شؤونهم بعين المدبر الحصيف. . . ثم عرفت أن الله جعلني نبياً لحكمة سامية: فحواء شخص فرد، ولكنها مؤلفة من شخوص يعدون بالألوف، بفضل ما يصطرع في جسدها وروحها، وقلبها وعقلها، من أشتات النوازع والأحاسيس. . . هي شخص فرد، ولكن أوقاتي تضيق عن الطب لأهواء ذلك الشخص الفرد، فكيف أصنع لو أضيف إليها أفراد يحملون ما تحمل من أوقار النزق والطيش والجموح؟ إنها تتعبني في الحوار، وأكاد أوقن بأن كل كلمة من كلماتها ترمز إلى شيء، فهذه الكلمة عتاب، وتلك الكلمة اتهام، وهذا اللفظ وعد، وذاك اللفظ إغراء، وذلك اللفظ تجريح. . . ومن عجيب الأمر في سياسة هذه الشقية أن خطبها لا يهون إلا حين تنطق، مع أن المفهوم أن نطقها في أغلب أحواله وعيد مخيف. . . أخطر ما تكون حواء حين تصمت، فعند ذلك أدرك أنها تضمر أشياء، وأنا أخاف أشد الخوف من النذير الصموت. . . لو أن الله جعلني نبياً في أمة كثيرة العدد لخف الخطب وهان، فقد كنت أستطيع الاعتذار بالعجز عن رعاية الألوف من الرجال والنساء، ولكن الله جعلني نبياً على مخلوق تحار في رياضته العقول. . . من أي طريق أصل إلى اكتناه قلب حواء؟ وكيف أؤدي الواجب في تهذيب تلك الشقية؟ وهل نجحت في التخلق بأخلاق النبوة وأنا أروض تلك الفرس الشموس؟ الله يعلم أني لم أقصر ولم أفرط، ولكن ما هذا البلاء الذي أعانيه؟ واجب النبي أن يهدي الجميع في حدود ما يطيق؛ وقد يتلطف الله به حين يعجز عن هداية من يحب، لأنه يعلم أن الأحباب هم في الحقيقة أعداء؛ وهل يعرف مقاتل المحب غير الحبيب؟ كان يكفي أن أعجز عن هداية حواء فأسلمها إلى الشياطين، ولكن البلاء كل البلاء أن هذه المرأة لا تكتفي بنجاتها من يدي، وإنما تريد أن تضلني فآكل معها الثمر الممنوع، وبهذا يصبح الهادي وهو من الضالين! إن نجحت حواء في اختتالي واختلابي فسأكون عبرة لمن يأتي بعدي من الأنبياء. . . وهل أضمن حفظ مكانتي في التاريخ؟ إن تطاول الزمان فسيقول قوم إن آدم شخصية خرافية أريد بها تصوير انهزام الرجال أمام النساء. وهل يؤذيني أن يقال ذلك؟ أنا أول ضحية بشرية إن هزمتني حواء، ومن حق من يجيئون بعدي أن يرتابوا في حقيقتي التاريخية. فالرجل الذي يعجز عن كبح المرأة لا يستحق شرف الوجود. . . وأنا أعيذ من

<<  <  ج:
ص:  >  >>