ما في هذه المدينة الدوارة المضطربة بوسائل الفرح، المتقلبة في مظاهر الانطلاق الروحي والحسي!!
لقد ولد في أسرة هي أغنى في عقليتها وتعليمها منها في ماليتها وتقاليدها، وأعظم في ميولها وأحاسيسها منها في أصلها وأعراقها.
ورأت فيه عائلته عن حق ميلاً إلى النبوغ الموسيقي، يتألق أنغاماً روحية تشعها روحه الباسمة وحركاته الراتبة ولفتاته الأنيقة. فأرسلته إلى (نابلي) ليأخذ هناك من نبعها الدافق، ويتعيش فيها بعد منها. ودخل بالتوصية والالتفات والرعاية (المعهد الموسيقي العظيم) حيث تعلم العزف على القيثارة تحت إرشاد الفنان القديم (ديماتيس)، فكان له من طبعه الفني القادر، وروح أستاذه الساحر، أكبر باعث ألهب فيه حيوية الفن واقتباسه. فصقل روحه بكل جديد من الصور، وخلع على قلبه كل فاتن من الأحاسيس، وإن ما كان يتوقعه هذا الفنان (ديماتيس) لتلميذه المتألق المتوثب من مجدٍ دفعه إلى أن أثر على الشاعر العظيم (جريكو) الذي أهتم بهذه العبقرية المتألقة المتطلقة التي لم تزل بعد في أكمامها.
ووجد (برجوليزي) ككل فنان حديث يشعر في قرارة نفسه بحيوية تريد أن تفيض، وأقباس تتطلع للظهور، وألوان تتواثب لتتنسم الحياة؛ وجد فناننا (برجوليزي) من القيود الموسيقية الرثة أغلالاً تجعل أجنحة فنه تحلق في سماء محدودة وأجواء مقيدة، وآفاق لا تشبع الرغبة الجامحة والنزعة الطافرة. وضاق صبره بتلك القيود ولكنه أكره نفسه عليها! حتى غادر مع أستاذه المعهد العظيم في عام ١٧٢٦ ليجني حراً طليقاً ما يريده من أزاهير، فتفتحت أمامه مبكرة، وتحققت أمانيه؛ فلحن على حداثته قطعاً من الأوبرا ونشيداً رائعاً فاتناً ساحراً هو (سان جيجليلمو) مما كان له مكانه سامية وشهرة عظيمة حتى في هذا الوسط الفني
ورحبت به العائلات الرفيعة التي كان عطفها ورعايتها قبلة فناني القرن الثامن عشر
ولا عجب أن رحبت به والتفتت إليه، وهامت بألحانه الساحرة، وما تريد سوى أن يلتف حولها الفنانون. أما هو فقد جملت أثوابه الجديدة الأنيقة من ملامحه الدقيقة الوسيمة، وقد عكس وجهه المضيء الغني وروحه الشاعرة الفتية العامرة بالحساسية!
ووجد ثمرة الإلهام أمامه ناضجة
فقد كان ملك نابلي المتحمس لتشجيع فناني عصره ملاذاً للعلماء والمهندسين والرسامين