ودع الفقه والجدال فيه، ودع الأزهر والحديث عنه، والتحرق له والبكاء عليه، فما ذلك بمغن عنك فتيلاً. وسوف يبقى الفقه كما هو، وسوف يبقى الأزهر كما هو، وسوف تضيع صيحاتك وصيحات غيرك في شأنهما هباء كما ضاعت من قبلُ صيحات وصيحات! عد إلى أحضان الأدب يا صديقي وأسمعنا شدوك عند رياضه وغياضه، وطر إلى آفاقه، وحلّق بخيالك في سمائه، فربما غنيت على قيثارته ألحاناً يرويها عنك الزمان. . .)
هذا كتاب صديقي إليّ، أثبته كما هو لأنه وإن كان كتاباً خاصاً يتحدث عن شأن له ناحية من العموم، ويمثل رأياً ينزع إليه جمهرة من شباب المتأدبين في هذا العصر فهم به مولعون
ولست أرى أني أغاضب الأدب وأجافيه - كما يتصور هذا الصديق - حين أكتب في موضوعات علمية، أو حين أعالج مشكلة من المشكلات الخاصة أو العامة، فإن الأدب ليس محصوراً في دائرة العاطفة والخيال وما يتصل بهما، ولكنه أوسع من ذلك دائرة وأبعد أثراً. وقد أتي على الناس حين من الدهر وهم يظنون الأدب حلية تراد للزينة وتستكمل بها مظاهر الترف، فكانت قصور الملوك والأمراء وذوي اليسار كما تضم الندمان والسقاة والجواري والغلمان، تضم الشعراء والكتاب والقصاص والرواة، قصاراهم أن يكونوا أداة لهو وتسلية تَشرح بهم الصدور وتُنسى الهموم. فلما ترفع الأدباء والشعراء عن تلك المنزلة قصدوا إلى الأدب والشعر بالتكريم فصانوهما عن التبذل في خدمة الأمراء والثراة إلا قليلاً، فأصبح الشاعر يقول ليرضي ذوقه الأدبي، وأصبح الكاتب يكتب ليصف شعوره هو قبل أن يصف شعور الآخرين؛ وبذلك استقل الأدب، ونال الأدباء والشعراء حريتهم، وانطقوا يهيمون في جوهم الصافي، وينعمون بأحلامهم اللذيذة؛ لا يحبون أن يكدرها عليهم مكدر، ولا أن يفسدها عليهم مفسد؛ ولكنهم كانوا من ذلك في شبه غيبوبة عن الحياة العملية المثمرة، لا ينفذون إلى صميمها، ولا يُعنَوْن إلا بحواشيها وأطرافها، ورضوا بالفقر حليفاً، وبالبؤس صاحباً؛ وخيلوا للناس أن الأدب والفقر صنوان، ورضيعا لبان! وأن الأدباء والشعراء هم وراث (أبي الشمقمق) في كل زمان!
أما في هذا العصر، فقد تغيرت المثُل، واستبدل الأدباء بنهجهم في الحياة نهجاً سواه: أصبح الأديب هو الذي ينفذ بقلمه وذوقه إلى دقائق العلوم، ومعضلات الفِكَر والآراء. هو الذي