في الدنيا كلها لا نعرف نظيراً لابن الرومي فيما رزقه الله من ملكة التصوير الفني ومن القدرة الشعرية على استيعاب كل مرئي رآه وكل محسوس أحسه وكل خالجه جرت بين طواياه
في الدنيا كلها نقول ونحن نعني ونعلم ما نقول. ومن لم يفهم هذا فليجتهد في فهمه، قبل أن يجتهد في رفض رأي ليس عنده من أسباب رفضه مثل ما عندنا من أسباب الذهاب إليه، وأسباب تأييده
بيتان اثنان من شعر ابن الرومي يصلحان لتقريب هذه الحقيقة، لأنهما نظماً بمحض الباعث إلى التصوير الفني، ولم ينظما محاكاة للموضوعات التي يتناقلها الشعراء
وهذان البيتان هما قوله في وصف حقل من الكتان:
وجلس من الكتان أخضر ناعم ... توسنه داني الرباب مطير
إذا اطردت فيه الشمال تتابعت ... ذوائبه حتى يقال غدير
بيتان ليس لهما رنين ولا بهرج ولا بارقة من المحسنات وأفانين الأناقة؛ ولكنهما لا يدعان محسوسة واحدة من محسوسات حقل الكتان إلاْ وعياها وسجلاها والتهماها كما يلتهم الفحم الجائع ما يشتهيه
فالصورة المرئية لها عناصرها التي تتم بها من جميع نواحيها: عنصر المنظر كله، وعنصر اللون، وعنصر اللمس، وعنصر الوقت الذي تراها، وعنصر الموقع الذي تقع فيه من المكان، وعنصر الحركة.
ما من شيء يبقى في الصورة المرئية بعد استيعاب هذا، وما من شيء من هذا لم يستوعبه ذانك البيتان
في كلمة (جلس) تمثيل للمنظر كله. اخترها ولم يختر كلمة حقل أو مزرعة أو ما شابه هذه الكلمات، لأنها تمثل المنظر تمثيلاً لا يتفق لسواها
وأخضر تذكرنا اللون، وناعم تذكرنا اللمس، والتوسّن يذكرنا وقت الوسن وشعور الوسن في وقت واحد، وداني الرباب المطير يمثل لنا حواشي المكان حيث تحيط بذلك الكتان، واطراد الذوائب كاطراد الغدير يمثل لنا الحركة على أحسن تشبيه وأصدق محاكاة.
تمت الصورة على هذا النحو لأن كل حاسة من حواس هذا الشاعر الخالد هي في جوعها