للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

لهم لما ظفروا به من دونهم، وليس إلى عودتهم من سبيل. فكأنهم يقولون لهم: إننا لن نأسى على أدبارنا، وإنكم لن تفرحوا بإقبالكم. لأنكم لن تصيبوا من الطيبات ما أصبنا، ولن تظفروا من متع الحياة ببعض ما ظفرنا.

ولقد أدركنا طرفا من حياة ملك المغنين المرحوم عبده الحمولي، فكان إذا أطرب وأفلق تبادر القعديون وقالوا: وأين هذا مما كان يصنع المقدم أو البيطار؟. وكانت الوردانية إذا جلجلت بصوتها الحنان قالوا: إن هذا إلا مزعة من صوت ألماس!. كذلك أدركنا صدراً كبيراً من عهد حنفي برعي وأحمد ندا، وسمعنا منهما العجب العاجب ولكن يأبى القعد لنا إلا تكديراً وانطواء على الحسرة لما فاتنا من صوت القيسوني، وكان صوته يقف الطير في جو السماء!. وغير هذا من فنون المبالغات تكدر صفو الناشئين، وتبطرهم على ما أزل الله لهم من ألوان النعم!

وإنني قضاء لحق التاريخ أقرر أن من الأصوات القائمة الآن ما لا يقل في قوته وحلاوته وصفاء جوهره عن خير ما سمعنا من ثلث قرن خلا. على انه إذا كان مما يوهن من تلذيذ الناس بسماع الغناء وشدة الطرب عليه تلك الخلة التي أسلفت عليها القول، فقد جد على ذلك عنصران كان لهما، في هذا الباب، خطر عظيم: أحدهما شدة اشتغال الجمهرة بالأحداث السياسية ونحوها، فلم تعد تجتمع لهذا ببعض ما كان يجتمع له السلف، إلى ما ورثت هذه الأسباب من كدر في النفوس هيهات أن يأذن لها بالخلوص للطرب على الغناء.

وأما الثاني فهذه العنيفة المشبوبة في الفن نفسه بحكم التطور والتحول من القديم إلى جديد يراد. وهيهات أن تستريح الأذن إلى ما لم يقر من بعد له قرار. ولعل الحال لو استقرت، والنفوس لو صفت، لخرج لنا من هم خير ممن تقدمت بهم الأيام.

ومهما يكن من شيء فقد حرم هذا الجيل من نعمة تلك الأثرة والتنغيص على من دونهم من النبت إذا صح أن يدعى ذلك نعمة! والفضل كله للرجل العظيم (أديسون) مخترع الفونغراف، فقد دون الأصوات، وسجلها على وجه الزمان!

والآن وأنا مقبل على ما أنا بسبيله، أشعر أنني قد تورطت في اختيار هذا الموضوع أشنع التورط. ولعل ما هربت منه كان أرفق بنفسي مما استعصمت به، وخاصة بعد هذا الذي قدمت من الكلام. ولقد قال أصحاب قواعد السلوك إن الرجل المربي خليق به ألا يروي ما

<<  <  ج:
ص:  >  >>