خلقت ناساً غير ناس، وأبدلت نظاماً من نظام، وفصلت تاريخاً من تاريخ، إلا نتيجة لدفع المصلحين المسلطين الذين وضعوا الكتاب في يد والسيف في يد، ثم كتبوا دستور الإصلاح بالمداد والدم
ولهذا الرجل الذي تنتظره الأمة العربية آيات تمهد له وتدل عليه: فمن الآيات المهيأة لظهوره انحلال الأخلاق فلا تتماسك في قول ولا فعل، وتتقاطع القلوب ولا تتواصل في وطن ولا دين، واستئثار النفوس فلا تتعفف في صداقة ولا نسب، وجموح الشهوات فلا تنقدع بلين ولا شدة، واستبهام المذاهب فلا تستبين بنجم ولا شمس، وانقطاع الأمة عن ركب الحياة فلا تتحرك قِبلة ولا دِبْرة
ومن آياته المنبئة بوجوده أن يكون لغيره لا لنفسه، ولأمته قبل أسرته، ولإنسانيته بعد وطنيته. وبهذه الصفة الأخيرة يختلف المصلح القومي عن الرسول. ومصداق تلك الآيات أن تموت (أنا) في لسانه وتحيا في ضميره، ويتحد في ذهنه وجود ذاته بوجود شعبه؛ فهو يحس ألمه لأنه مجتمَع شعوره، ويدرك نقصه لأنه مجتلى عقله، ويملك القيادة لأنه مظهر إرادته. وهو في سمو نفسه ونزاهة هواه قد ارتفع عن أوزار الناس وأقذار الأرض؛ فلا يطمع لأن غرضه أبعد من الدنيا، ولا يحقد لأن همه ارفع من العداوة، ولا يحابي لأن فضله أوسع من العصبية، ولا يقول قولاً أو يعمل عملاً إلا إذا وافق الدين الذي يعتقده، والمبدأ الذي يؤيده، والشعب الذي يقوده
ثم هو في ألمعية ذهبه ورصانة لبه وصلابة عوده وبعد همته يعظم على الأحداث، ويعلو على الحوائل، فلا ينضح رأياً إلا أمضاه، ولا يرمي غرضاً إلا أصابه، ولا يروم أمداً إلا أدركه
هذا الرجل الملهم الموهوب هو الذي ترقب ظهوره كل فرقة، وترصد نجمه كل أمة. ولقد ظهر أمثاله في بعض الأمم وهي على شفا الهاوية فأعادوها إلى الحياة وردوها إلى الجادّة. ولا تزال الأمة العربية تحدق النظر العبران في الأفق الغائم ترجو أن تتشقق الحجب عن نوره. فهل آن يا أرحم الراحمين أوانُ ظهوره؟
أن القطعان المهملة تدخل في عهدة الذئب؛ وإن القوى المتفرقة تُجمع في حساب العدو؛ وإن اللآلئ المبددة إذا لم يضمها سلك لا ينتظم منها عِقد؛ وأن الأمة التي لا تملك يوم الجِد