للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

فإذا زعمنا له أن من حقنا أن نسمع الأستاذ، وأن ليس له أن يصرفنا عنه قهقه قهقهة مخيفة، وقال في صوت ما نشك أن الأستاذ قد سمعه: (وماذا تريدون أن تسمعوا؟ ولكنكم معذورون، جئتم من الأزهر فكل شيء عندكم قيم، وكل شيء عندكم جديد).

واجتهدنا بعد ذلك في أن نجتنب مكانه من غرفة المحاضرات، وأن نختار لأنفسنا مجلساً بعيداً منه أقصى غاية البعد. تركناه ولكنه لم يتركنا، وكأنما عمائمنا كانت تغريه بنا وتحرضه علينا، فلم نكن نخرج من محاضرة حتى يعرض لنا ويأخذ بجبتي أو قفطاني وهو يسألني (أأعجبتك المحاضرة؟) فان قلت (نعم) قال: وماذا أعجبك منها؟ وهل فهمتها على وجهها؟ وكان يقول لي: هون عليك من هذا الحرص على المحاضرات، ولا تتهالك عليها هذا التهالك، فهي أقل غناء مما تظن وخير لك أن تقرأ من أن تسمع، فلما ألح علي في ذلك سألته وإذا كنت ترى هذا الرأي فما اختلافك إلى الجامعة؟ وما استماعك للمحاضرات وما تهويشك علينا بصوتك العالي وحديثك الذي لا ينقطع؟ فضحك وقال: الجامعة شيء جديد أحب أن أراه، وقد سئمت القهوة، ولو لم يكن في الجامعة الا أنت وأصحابك هؤلاء الذين تتفتح عقولهم للعلم الحديث فيتلقون ما يسمعون في كلف ونهم مصدرهما الجهل العميق، لكان هذا كافيا لأن اختلف إلى الجامعة واستمع للمحاضرات. ثم سألني ذات يوم: أين تقيم؟ أجبته: أقيم في حي كذا. قال: ومع من تقيم؟ قلت: مع جماعة من الأهل والأصدقاء كلهم يطلب العلم في الأزهر أو في المدارس المدنية، قال: إن منزلك بعيد وليست بيئتك بالتي تحب، فأنا لا أحب مجالس الطلبة، وأنا مع ذلك حريص على أن أجلس معك وأتحدث إليك فأطيل الحديث، بل أنا حريص على أن أقرأ معك بعض الكتب، فلابد إذا من أن نلتقي، ومن أن نلتقي في نظام واطراد فليكن ذلك عندي، ولك علي أن أردك إلى أهلك وأصدقائك قبل أن يتقدم الليل، ودون أن تجد في ذلك مشقة أو تحتمل فيه عناء. وكان يقول هذا بصوته الغليظ العريض في لهجة الحازم الواثق بأن أمره سيطاع، وقد هممت أن أرد عليه معتذراً، وما كان أكثر المعاذير! فلم أكن أستطيع أن أسهر ولا أتعرف إلى أحد دون إذن من أخي، وكان علي أن أغدو مع الفجر إلى درس الأصول، ولم يكن بد من أن أستعد لهذا الدرس وغيره من دروس الأزهر، وأن أعوض هذا الوقت الذي أضيعه كل مساء في الجامعة على كره من أخي في القاهرة وأسرتي في الريف. هممت أن

<<  <  ج:
ص:  >  >>