على الكتابة أو القرطاس هما اللذان شوها قده هذا التشويه، وقلما كان وجهه يستقيم أمامه، إنما كان منحرف العنق دائما إلى اليمين أو إلى الشمال؛ وقلما كانت عيناه الصغيرتان تستقران بين جفونه الضيقة، إنما كانتا مضطربتين دائما لا تكادان تستقران على شيء حتى تدعاه مصعدتين في السماء، أو تنحرفا عنه إلى ما يليه من إحدى نواحيه. ولم يكن صوته عذبا ولا مقبولًا، وإنما كان غليظاً فجاً، ولكنه مع ذلك لم يكن يخلو من نبرات حلوة تجري عليه إذا قرأ شيئا فيه تأثر وانفعال، وكان له ضحك غليظ مخيف يسمع من بعيد، بل كان كل ما يصدر عن صوته غليظاً مخيفاً، يسمع من بعيد، ولم يكن للنجوى معه سبيل، وكثيرا ما ضايقه ذلك حين كان في باريس، وكثيرا ما حمل ذلك الناس عامة وأصدقاءه خاصة على أن يضيقوا به ويجتنبوه إذا لقوه في قهوة أو ناد أو ملعب من ملاعب التمثيل. وهو على رغم هذا كله كان أحب الناس ألي وأكرمهم علي وآثرهم عندي وأحسنهم مسلكا إلى نفسي ومنزلا من قلبي، كان يزورني فانصرف إليه عن كل شيء، وأقضي معه الساعات، فإذا تركني خيل ألي أني لم أقض معه الا اللحظات القصار. وكنت إذا أعياني الدرس واحتجت إلى الرياضة أو الراحة، آثرت زيارته والتحدث إليه والاستماع له على كل ما كانت تقدم إلى القاهرة أو باريس من أنواع الرياضة والراحة.
- ٢ -
فقد عرفته في القاهرة قبل أن يذهب إلى باريس ثم أدركته إلى باريس بعد أن سبقني إليها، عرفته مصادفة وكرهته كرها شديدا حين لقيته لأول مرة؛ كنا في الجامعة المصرية القديمة في الأسبوع الأول لافتتاحها وكنت أختلف إلى ما كان يلقى فيها من المحاضرات حريصاً عليها مشغوفاً بها معتزماً أن لا أضيع حرفاً مما يقول المحاضرون. وكان مجلسي لهذا دائماً قريبا من الأستاذ، فأني لمصغ ذات ليلة إلى الأستاذ وإذا بصوت من ورائي ينطلق بالحديث هادئا ولكنه، على هدوئه يغمر أذني جميعا، ويكاد يخفي علي صوت الأستاذ، فأجد في التخلص منه فلا أفلح، وأضيق بهذا الصوت ويضيق به صاحباي اللذان يكتنفانني، فنلتفت إلى صاحب الصوت نطلب إليه الصمت فلا يسكت الا ريثما يستأنف الحديث، ونراجعه مرة أخرى فلا يحفل بنا، فنشكوه إلى الأستاذ فيضطره الأستاذ إلى الصمت، حتى إذا انتهت المحاضرة وخرجنا من غرفة الدرس رأيناه قد وقف لنا ينتظرنا، فيعرض لنا في غلظة،