في الشرق، كما كان علماء المشرق الذين ضاقت بهم الحال في بلادهم يجدون في الأندلس سوقاً رائجة لأفكارهم ومعلوماتهم، وكذلك كان كثيرون من محبي العلم في الأندلس يقصدون الشرق واردين العلم من منابعة الأصلية، فيمرون بمصر والشام وبغداد والحجاز وقد يذهبون إلى فارس. على أن الحياة الفكرية لم تبلغ أشدها في المغرب إلا في عهد المرابطين، ثم بلغت أوجها الذهبي في زمن الموحدين حيث ظهر ابن طفيل وابن رشد وابن زهر وغيرهم. ويجدر بنا قبل الكلام عن ابن باجة أن نبدي الملحوظات الآتية:
١ - كان المغرب بعيداً عن المنازعات الدينية العنيفة التي ظهرت في الشرق، فلم يسد فيه إلا مذهب مالك، ولم يكن فيه لا مجوس ولا زنادقة، ولم يظفر فيه كثير من علماء الكلام والجدل. وكان أهم ما يعتني به أهله ولا سيما عصر الأمويين الطب والرياضيات والتنجيم. وكان الناس مشغوفين بالشعر والتاريخ والجغرافيا، ولم تكن موجه التفلسف قد غمرتهم وأفسدت عقولهم كما هو الحال في المشرق. هذه كانت حال الأندلس أول الأمر
٢ - ولكن نجد أن المذهب الظاهري الذي يمثله ابن حزم - وهو من أشد المذاهب ضيقاً - يسيطر على الأندلس، حتى نرى كل من يفكر في الفلسفة يضطهد. فلما قدم عبد الله بن مرة القرطبي إلى بلاد الأندلس يحمل الفلسفة الطبيعية (التي يمثلها الكندي) في عهد عبد الرحمن الثالث أُحرقت كتبه أمام ناظريه ولهذا لم يجد الفلاسفة جواً من الحرية حتى ينشروا آراءهم. ولقد اضطهد ابن باجة وابن رشد من العامة والخاصة على السواء؛ ولهذا أيضاً اتخذ فلاسفة الأندلس النظرية القائلة بأن الفلسفة لا تصلح للعامة وإنما هي وقف على الموهوبين من الخاصة، وسنجد كذلك محاولتهم في التوفيق بين الفلسفة والدين
٣ - لم يوجد في الأندلس جماعة يقومون بالنقل والترجمة ويتقدمون بعرض الآراء الفلسفية كاليعاقبة والنساطرة في الشام والعراق؛ أما اليهود الذين ادعى كثير من المستشرقين بأنهم كانوا الواسطة في نشر الفلسفة بين مسلمي الأندلس فأثرهم ضئيل، وهؤلاء كانوا تلامذة للمشارقة فتأثر باخيا بن باقودا بإخوان الصفاء وتأثر ابن جبرول وغيره بفلاسفة المشرق الإسلاميين
وعلى العموم فقد كانت الحياة بالأندلس غير ملائمة لجو الفلسفة، وكان الفيلسوف يشعر بوحشة نوعاً ما لشدة التعصب وضيق العقل