الحديث عن موضوعات في القانون كان هو قد اطلع عليها قبل فراقه المدرسة وبدأ يشغف بها
كانت أياماً سودا. . كان يعرف أنه في عمله الضئيل يعيش بلا أمل. وكان يتنبأ بأنه لن يبتسم لنفسه البتة؛ فإن فعل فستكون بسمة غير بسمته المعهودة: بسمة أخرى هي بنت الكآبة وأخت الدمعة الحارة. لقد استبعد يومها أن يكون هو مجاهد صاحب الآمال المرسلة بالأمس، وود الموت صادقاً، وما منعه أن يقبل عليه غير خوف على أعزاء له صارت إليه أزمة أمورهم، وفي رقبته باتت مسؤولية رعايتهم
وهاهي السنون لم تنصف السبّاق المنبت، وتركته مردود الجماح مكفوف الطّماح، يريد التقدم فلا يستطيع. إنه منذ عمل مدرساً وهو يلوك منهج السنة الثالثة الابتدائية في الحساب والجغرافية والتاريخ. . . يشقى بتلاميذ لا يبدو فيهم النابغ إلا نادراً: مظهرهم لا يشرح صدراً، وعيونهم تنّم عن أنهم جياع، وملابسهم تنم عن أن أهليهم يعانون في معاشهم مصاعب شداداً. . .! وأبناء الميسورين منهم يذيقونه بعبثهم واستهتارهم عذاباً شديداً، فإن نهر واحداً منهم جاءه الناظر يقول حانقاً: تصرفاتك تنفّر التلاميذ وآباءهم من المدرسة وتحيلهم إلى مدرسة التاج التي تنافسنا!! ويتيه الناظر فيحتمل مجاهد، ويقول فيسمع، ويأمر فيطيع. . .
وهاهم بعض تلاميذه قد سبقوه أيضاً: نالوا حظ التعليم العالي، ثم تخرجوا إلى الحياة شباناً ناجحين. . . وبقى هو وحده خلف هؤلاء، وهؤلاء جميعاً، لا يصل أن يكون مرؤوساً للكثير منهم!
ما برح مجاهد في عمله الشاق يصحح أكداس الكراسات ويغدو على الصبيان الشياطين نحو ثلاثين حصة في الأسبوع، فيخلع من شبابه وصحته برداً بعد برد. . . وهو مع ما يبذل من جهود لا يتقدم ولا يزيد إلا ضنى كذبالة تضيء للناس وهي تحترق!
لقد كان يوشك أن يموت كمداً وألماً كلما ذكر أنه لا يحمل إلا شهادة يحملها الصبيان ويتقدم لها في العام أكثر من خمسة آلاف طالب. إن المفتش والناظر والمعلمين والطلاب لا يقيسون كفاية المعلم إلا بمقياس واحد:(الشهادة). . . وهو، سطا به الدهر سطوة حرمته هذه (الشهادة). . . فسلام على الحياة الرغدة، وعلى التقدم، وعلى الأمل. . .! وويل لابنه