من الخجل الشديد حين يسأله زملاؤه عما يحمل أبوه من شهادات. . .!
هذه الآلام التي ظلت تعبث به سنين طويلة استطاع اليأس ولا شيء غير اليأس أن يواريها انكشفت اليوم حين التقى مجاهد برأفت بك. . . فهي تلذعه لذعاً أليماً، وتعيد له مأساته جديدة
أين أيام مدرسة القربية حين رأفت وإبراهيم عثمان لا يتركانه إلا لماماً، حين كانت الحياة لينة الأعطاف عليهم جميعاً، وكان هو أذكاهم وأقواهم! خفض الزمان الثقيل ورفع الخفيف!! هذا رأفت وصل يقيناً، فكيف بإبراهيم وهو كان أنشط من رأفت وأذكى وألمع؟. . . كيف وهو منذ طفولته أبعد مطمحا وأكبر لبانة؟ هو لا بد الآن يتسور المجد. . . حكم الله! اثنان يركضان دراكا وثالثهم يزحف زحف الكسيح! واضطراب كيان نفسه. . . وفاضت عيناه بالدمع الغزير. . . كأنما كان معه في القطار ميت عزيز! والتفت فرأى أناساً يرقبونه في تعجب، فاستحى أن يبدو أمامهم فيّاض الشؤون، وأحب أن يكذب ظنهم، فوقف في نافذة القطار ليدع للهواء تجفيف الدمع بدل المنديل. . .
أّنى لمجاهد بالعزاء وهو من بين أترابه الحي الميت؟ ما أشوق مجاهد إلى الانفراد بنفسه ليتعاطى البكاء دواء يشفى دائه الثائر!؟ ولكنه لا يستطيع حتى هذه اللذة، لأن السافرة كثيرون، والفضال كثير!
وحملق في السماء ضارعاً يشكو بثه وحزنه إلى الله، ولكنه ذكر أن الله عليه غضبان، فهو منذ خاطت له الأيام محنته يغسل أشجانه في الكأس المحرّمة، فأرجع بصره إلى الأرض خاسئاً ذليلاً حيران. . .
وخفف القطار الجاهد من سيره وهو داخل محطة بنها، وأقبل الباعة على السفر يصيحون: التين! الكازوزة! خبز وبيض! سجاير! كانت نداءاتهم عالية مسرعة ملحة كأنما يستنجزون بها المسافرين صدقة! وفي زحمة العربات وغمار اللغط، كان صوت عال مسرع ملح كسائر أصوات الباعة يرن أسود خاشعاً: الكتب! النتائج! القصص! طوالع الملوك. . . ونظر مجاهد إلى صاحب الصوت مأخوذاً. . . إنه رجل ترهقه ذلة ناطقة ويحوطه انكسار يروع. . . إنه رجل مشتعل الرأس شيباً وعلى صفحته خطوط تتكلم بما يؤوده من أوقار الدهر وبما يظلم عليه من شعاب الحياة. كل ما بين ذراعيه عدد من الكتب الرخيصة التي