للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

أولئك الذين قالوا بأن هذا الحب أو الكره وليد الفطرة أو الغريزة وأنه لا يمكن أن يعلل بشيء آخر

ولا ريب في أن تجارب الماضي من الكثرة بحيث لا يمكن أن تعد أو تحد، وهي بالقياس إلى هذه الكثرة تحدث في نفوسنا مظاهر الانفعال بالسرور أو خلافه، ما قد يكون له الأثر البالغ في أسلوب تفكيرنا وفي اتجاه إرادتنا في الحياة. غير أننا مما لا ريب فيه أيضاً لا نقتصر في نفوسنا على جذوة هذا الحب أو الكره الذي يبعثه ما جوزينا به على تجاربنا الماضية من خير أو شر، فإن لنا من الحب ما هو ربيب رفقة وتصاف، وما هو وليد تصافح في المصالح، وإن من الكره ما تنشئه تجربة غير ذات علاقة بتجربة بعيدة

هنالك أمر له خطره في تحليل هذه الظاهرة النفسية، هو أن عامل انبعاث هذه الظاهرة، وأعني به الحدث الماضي الذي ارتبطت به وانبعثت عنه، قد يظل كامناً وراء حاجز من الزمن فلا تمتد يد الذاكرة إليه، ولكنه لا يندر أن يبعثَ أحدنا في عامل هذا الشعور الغامض فيقع على مصدره في تجربة ماضية شبيهة بهذه التجربة الجديدة، ويرجع وملؤه الاقتناع بأن رابطة التناظر كانت علة هذا الشعور الذي امتلأت به النفس بعد أول نظرة ألقتها العين. فإذا كان في المنفعل بهذا الشعور الجديد المفاجئ من قوة التذكر وبعد النفوذ إلى ما وراء الشعور، ما يمكن به الوصول إلى موضع التجربة الماضية من قاع النفس، وأخرجها إلى عقله الواعي، فقد أمكن له التغلب على عاطفة حبه أو كرهه الهوجاء، واستطاع أن ينظر إلى الشيء بنظرة حرة مستقلة، وأن يوليه ما يستحقه من رغبة فيه أو ميل عنه. وبتحديد موقفنا الجديد من الأشياء والأشخاص نريح أنفسنا من كثير من المتاعب

هنالك أمثلة كثيرة مما نحب متأثرين بالماضي الذي أحييناه وبالتجارب السارة التي خلت فيه. فنحن نحب الربع الذي وهبناه طفولتنا ومنحناه أيام صبانا، ونحب المنزل الذي عرفناه وألفناه، وقد تتطور بنا الحياة فننتقل إلى ربوع جديدة وديار جديدة هي أمثل وأكمل من تلك التي تركنا عليها أيام الشباب، ولكنا نظل حَمَلةً لأرقى عواطف الحب والولاء لذلك الوطن الأول. لأنا نرى فيه ظل ذلك الصبا الذي خلعناه، ولأنه يذكرنا بما كان لنا فيه من تجارب سارة. فكأنما نحن وإياه مزيج واحد

كذلك نحن نحب رفيق صبانا، لأن لصحبته ارتباطاً بكثير من تجاربنا السارة الماضية؛ فإذا

<<  <  ج:
ص:  >  >>