للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

نحن لازمناه بعد دور الشباب، كانت ملازمتنا إياه عاملاً في بعث كثير من صور الماضي الذي خلا. . . تلك الصور التي أحييناها بغفلات الشباب وملأناها بمسراته. . . فإذا هي انبعثت - ولو في الذاكرة - من جديد، كان في انبعاثها إعادة لذلك الشعور الذي رافقها أول مرة. . . وفي ذلك رجوع بالنفس إلى زمن الصبا عن طريق إثارة ما وعاه.

ونحن نحب أيضاً قراءة الكتب التي سبق أن قرأناها في فجر حياتنا وفي أيام دراستنا، لا لأنها من المعنى والمبنى ما تستحق عليه الإعادة، ولكن لأنها ترتبط في الذاكرة بسلسلة ما حدث لنا في شبابنا من الحوادث السارة، بحيث يصح الادعاء بأنا قد ننسى لحظتنا الحاضرة لنعود إلى الماضي ونحيا فيه، فنستمتع بذات اللذة التي تمتعنا بها لأول مرة، ونحيي نفس الشعور الذي أحييناه في ذلك الماضي البعيد

إن هذه الظاهرة النفسية - ولا ريب - تثبت لنا بقاء ما يحدث لنا في أيام الحياة؛ فالتجربة لا تفنى وإن تكن قد تنسى مهما ثقلت عليها وطأة الزمن في روحاته وغدواته، وإنما تنزوي في ركن قصي من أركان باطن العقل، حتى إذا حدث ما يرتبط وإياها برباط من التناظر، تحركت وهي في قاع النفس، ومدت يدها إلى رفيقها الجديد، فأوحت له بما عندها من معنى، وأحدثت في نفس صاحبه ما تفرضه عليه من شعور خاص

تلك هي العلة في أنا قد أحببنا هذا لأول لقاء، وأنا قد كرهنا ذلك بعد أول نظرة؛ فما ذلك الحب وهذا الكره إلا وليد تجربة سارة وأخرى غير سارة. فقد يكون وجه من أوليناه الحب شبيهاً بوجه رفيق لنا سبق أن أجبناه، وكان هذا علة في هذا الحب الجديد. وقد يكون صوت من كرهناه مضارعاً لصوت مربية لنا غير محبوبة، وكانت هذه المضارعة في الصوت باعثاً على نشوء كرهنا الحادث

إن في نفس كل منا كثيراً من التجارب السارة والمؤلمة، وهي تحدث في نفوسنا من المشاعر ما يتفق وإياها في جليل أو قليل، فنحب ونكره لعوامل دفينة في طيات النفس، وقد تبقى في أكثر الأحيان غير معروفة، ولكن ليس كل ما نحب وما نكره من هذا القبيل

(بغداد)

حسين الظريفي المحامي

<<  <  ج:
ص:  >  >>