تعجبك أجسامهم وإن يقولوا تسمع لقولهم كأنهم خشب مسندة يحسبون كل صيحة عليهم). أولئك تقربوا بالدنيا إلى الآخرة وبالأجسام إلى الأرواح، وهؤلاء تقربوا وأضاعوا الدنيا والآخرة، وزهدوا في الخير الدائم ونعيم الأجيال وحرية الأرواح ولم يروا شيئاً أن تكون لهم المادة ولا يكون لهم شيء من المعنى
لقد كان للناس عبرة في مظاهر الطبيعة وتقلبات الحوادث، وكان لهم عظات تتكرر وتقسو في التنبيه والإرشاد، وكان للناس أجمعين في كل ما يتقلبون فيه ويعانون تجارب يكفي أدناها لليقظة والاعتبار. . . ولكن هيهات، فإن الناس لا يفهمون من لغة الطبيعة وتضافر الآيات إلا عوارض لا رأي لها ولا غاية؛ وما الشمس في مجراها والقمر في دورته والأرض في حركتها وانسلاخ النهار من الليل وجري الأنهار وهديل الأطيار إلا ألوان من اختلاف المادة، واتصال الطبيعة لا شأن لها ولا غرض إلا خدمة الإنسان وتعرضها له بالمتعة والانتفاع. . . وكأن الطبيعة أدركت من الإنسان ذلك الهزؤ وتلك المهانة فأخذت تتحداه وتتعرض له بالنكبات تلو النكبات وبالمصائب بعد أمثالها؛ وكلما تقدم في المعرفة والعمران وازداد غروره في تملك ناصية الطبيعة والتمكن منها كانت هذه تجد الفلتات فتتسرب إليه من حيث اطمأن وتنوبه من حيث أمن؛ فتجد المصنع يتفجر، والمنجم يثور، والسفينة لا تنقذها مهارة ربانها، أو البركان يعصف بالأرض ومن عليها، وربما لا تجد يوماً يمر دون أن تفلت الطبيعة من يد الإنسان فتبدد آماله وتبدل خططه.
لقد مرت على دجلة القرون والأحقاب وهو يجري بمائه إلى البحر فيلقي فيه بالكنوز وبالقوة، ولم يحظ أهله منه إلا بالنزر اليسير من الحظ الكبير حين كان الناس جهالاً وحين كانت الطبيعة أقوى من الإنسان. إن في دجلة من الخير والقوة ما لا ينضب معينه ولا تنفد مادته. ولقد قعد ابن دجلة يتمطى على جانبيه عصوراً طوالاً حتى أدركه هذا العصر عصر القوة والابتداع فوجده قاعداً وقد قام الناس، وفقيراً وقد استمتع بالثراء كل ذي نأمة. أفلا تمتد الأيدي إلى مصدر الغنى وينبوع القوة فتجعل من الفقر غنى ومن الضعف قوة؟. . . أفلا يجدر بنا أن نكف من غرب دجلة بالآلة ووسائل الإنتاج الحديثة بدل أن نتعهد شاطئيه كل عام بالأيدي والمساحي و (الهزات) ثم نحن لا نصد من عادية النهر قليلاً ولا كثيراً، ولا يعود علينا ذلك بإصلاح دائم ولا بتقوى شاملة. . .؟ ألم يأنِ للذين يخشون طغيان دجلة