كل عام أن يفكروا بالانتفاع من طغيانه فيكون لهم مورد خيرات ونعمة وجاه بدل أن يهتموا موسم كل فيضان بكفكفة ضفتيه خوف البلاء واتقاء الغرق؟ لقد ملأنا أنفسنا خوفاً من دجلة ورعباً من أمواجه، فقد تواردت علينا السنون ونحن لا نفكر في شيء من أمر الرافدين إلا أن نصد البلاء وندفع النكبة حتى خيل إلينا أن ليس في النهرين إلا الشر، وأنهما لا يحملان بين أمواجهما إلا الرعب، حتى صار لفظ (الطغيان) في إفهامنا مرادفاً للغرق. . . أتعجز ونحن في العصر العشرين عما عجز عنه قدماؤنا قبل الأدهار البعيدة والأزمنة السحيقة؟
تعاقب علينا يا دجلة بالطغيان بعد الطغيان، وخاطب المعاصرين كما خاطبت القدماء؛ فإن الناس لا يفهمون لغة الأمواج ولا يعقلون نداء النُّذُر، ولن تزال شواطئك صحارى يابسة ومنازل خاوية حتى تستبدل بالمسحاة (الحراثة) وبالهزة (الكراكة)، وحتى يكون الطغيان أملاً ورجاء، لا خوفاً وبلاءً.