(عبقرية محمد). . . وإن في الكتاب للفتات نفسية وفكرية لا تتيسر لكل إنسان، ولعلها لم تكن تتيسر للعقاد نفسه قبل هذا الزمان. . . وإنه ليقول:
(أين كنا قبل تلك السنين الثلاثين؟
(إنها مسافات في عالم الفكر والروح، لو تمثلت مكاناً منظوراً، لأخذ المرء رأسه بيديه من الدوار، وامتداد النظر بغير قرار)
والذين يعرفون طبيعة العقاد وانفساحها وتوفزها والتهامها لكل جديد، وتجددها حيناً بعد حين، وازدحامها بالخواطر عدد الثواني واللحظات، هم الذين يعرفون حقيقة هذه المسافات في عالم الفكر والروح، ويعرفون أنه يعني ما يقول حين يقول:(لو تمثلتْ مكاناً منظوراً، لأخذ المرء رأسه بيديه من الدوار)!
قلت في التمهيد لهذه الكلمات: إن العقاد دارس شخصيات وإن كل إنسان يدرسه العقاد تستطيع أن تعرف (من هو) وإن لم يستوعب كل صفاته وكل ما وقع له في حياته؛ وهذا ما تجده في (عبقرية محمد) في نضج واستواء؛ وإنه ليبدأ بعد المقدمة مباشرة في ص ١٦ فيرسم بخطوط سريعة التصميم الأولى للصورة تحت عنوانات:(عالَم. أمة. قبيلة. بيت. أب. رجل). . . فتحس بعمل الريشة الماهرة المتيقظة لما تريد، العليمة بقواعد التصميم والتلوين؛ فإذا انتهى إلى ص ٢٦ أحسست أن التصميم كله قد تهيأ على اللوحة، وأن صورة محمد وعصره ووظيفته في هذا العصر قد برزت من خلال هذه الخطوط السريعة، فلم يبق للريشة المدربة إلا التلوين، وملء الفجوات، وتوضيح القسمات، وذلك هو بقية فصول الكتاب!
وسنحاول أن نعرض هنا بعض لمسات هذه الريشة المدربة في تخطيط التصميم الأولى السريع:
يقول في ص ٢٦ و٢٧: (عالم يتطلع إلى نبي، وأمة تتطلع إلي نبي، ومدينة تتطلع إلى نبي، وقبيلة وبيت وأبوان أصلح ما يكونون لإنجاب ذلك النبي. . . ثم ها هو ذا رجل لا يشركه رجل آخر في صفاته ومقوماته، ولا يدانيه رجل آخر في مناقبه الفضلى التي هيأته لتلك الرسالة الروحية المأمولة: في المدينة، وفي الجزيرة، وفي العالم بأسره
(نبيل عريق النسب، وليس بالوضيع الخامل فيصغر قدره في أمة الأنساب والأحساب