أبا العلاء في وصف رحلة إلى العالم الآخر غير لوسيان، ونحن نقول له: بل سبقه هوميروس وفرجيليوس. . . و. . . فما الرأي إذن؟ وهل يقبل الأستاذ العقاد - وهو العالم بكل تراث الإنسانية الروحي المقدر لقيمته - أن نمحو من الوجود كل هؤلاء الفطاحل ليصح ما أكده؟ ألا ليتنا نستطيع ذلك لنرضي كبرياء العقاد وإن كان قد وضعه في غير موضعه.
وبعد فليس يضير العقاد أن يجهل وصف هوميروس أو فرجيليوس لرحلة كهذه، إذ لو علم العقاد بكل شيء لفقد أهم صفة يتميز بها جميع البشر بله الأدباء منهم وهي صفة الإنسانية، ونحن جميعاً نجهل أشياء كثيرة ولم أضفنا أعماراً إلى عمرنا ولو بذلنا جهد الرهبان في التحصيل، وإنما يضير العقاد ككاتب يجب أن يحترم كرامة العقل أن يصدر في محاجته للغير عن منهج معيب.
لم يرد العقاد على ما وجهته غليه بل نقل الحديث إلى وجود الجنة والنار قبل أبي العلاء وقبل لوسيان (على نحو ما يرى أن لندن كانت موجودة قبل رحلات المسافرين إليها). وهذه سقطة ما كان يليق برجل كالعقاد أن يلجأ إليها في كبرياء المتعالي؛ فموضع الجدل ليس وجود النار والجنة، بل ولا علم الناس بهما، بل وصف الرحلة إليهما وفيهما وصفاً أدبيًّا فذِّيًّا على نحو ما فعل هوميروس وغيره ممن ذكرنا
ولقد كان العقاد يستطيع أن يغالط - كما كان يفعل جورجياس كبير السفسطائيين عند اليونان على نحو أرقى من هذا النحو. ألا ليته قال مثلاً إن اللغة كانت موجودة قبل وضع نحوها، وأن الطبيعة كانت قائمة قبل استنباط قوانينها، وأن العقل كان يعمل قبل صياغة المنطق، وأن المنطق أقدم وأصدق وأنبل من السفسطة. ولو أنه فعل لوجدنا في مغالطاته جلالاً، وأما أن (لندن وباريس وبلاد الأفيال) كانت موجودة قبل الرحلات إليها فهذه حقيقة مغالطة تافهة كنت أود أن يترفع عنها العقاد
أسرف العقاد إذن على نفسه وعلى القراء عندما أكد أن فكرة الرحلة إلى العالم الآخر لم يسبق أبا العلاء إليها غير لوسيان، وهذه المسألة لا تقبل الدفع
فلنتركها إذن لما هو أهم وهو منهج العقاد في التفكير كما يطالعنا من رده وتلك مسألة يضطرنا العقاد إلى أن نثيرها لا بصدد حديثه عن أبي العلاء فحسب بل بوجه عام