من ظن ذلك فقد قرنها بالصنعة، وفرق بين الطبيعة والصنعة. أما الطبيعة ففيض من الروح ونور من الإلهام، وأما الصنعة فألفاظ مرصوصة وصور منحوتة. وهيهات أن يصل كاتب حرم حيوية الفكرة إلى مراتب الكمال، فإن ذلك أبعد من تحقيق حلم الخيال. وفي مصر كثير من صناع الألفاظ، ونقلة الأفكار. وإنك لترى العجب كلما قلبت مجلة من المجلات؛ فهنا كاتب بلغ الغاية فاطمأن وظن أن على القارئ أن يقرأ كل ما يكتب ولو كان من عبث العابثين. وهناك كاتب انسلخ من ماضيه وساير ركب الحياة الضارب في كل متاهة ومضلة
قلت: حق هذا يا بني؛ بل إن الحيوية الفكرية لتكسب الكاتب شخصيته، وشخصية الكاتب في أسلوبه، وطريقة عرضه لأفكاره، ونقده لأفكار غيره، ونظرته وتأمله إلى كل ما يضطرب حوله من صور الحياة. فهذا كاتب اختصت حيويته بالنظرة النافذة، والرأي العميق، والفكرة الفلسفية. . . فتراه في كل مظهر من مظاهر إنتاجه قد ساير طبعه، وجانس حيويته. إن من الأفكار ما يكون باقياً على الدهر، يتنافس الرواة في حفظه ونقله، وتلهج الألسنة بترديده والتمثل به، ولا يزيد على الأيام إلا جدة وقوة؛ لأنه وليد مشاعر حية إنسانية، وعصير قلوب ذابت فجرت نغما. ذلك النوع من الفكر هو ما قام على قواعد من الحيوية، تحس في كل لفظ من ألفاظه حياة لا تقيدها الكلمات، ولا تتحكم فيها العبارة؛ هذا النوع من الفكر يساير الحياة لأنه وليد الحياة، ويضرب في نواحيها المتباينة فيكون منطقه فصلاً، وحكمه نافذاً. . . لا يسأم الإنسان من تكراره، ولا تنفر الآذان من سماعه، لأنه نغم القلب وصدى الروح
قال: إذا صح أن الحيوية تكوِّن الشخصية. . . فإنه يصح أيضاً أن تكون الحيوية الأساس الأول للاتزان مع البيئة. وأقصد بالاتزان مع البيئة مسايرتها وملابستها أصدق المسايرة والملابسة. . . فترى الكاتب المفكر الذي يخضع لحيوية قوية يحس مواضع القول، ويجيد اختيار المناسبة؛ ولاختيار المناسبة موضع وحدود، وليس من الحيوية أن يتخطاها الكاتب أو يعجز عن إدراكها. . . فقد تتواري السحب وراء الأفق البعيد فيظن الكاتب الذي تعود أن يرسل نفسه على سجيتها أن السماء صادقة في صفوها فيندفع وراء ما يحس هو لا ما يحس غيره، ويجري وراء ما يراه هو لا ما يراه المجتمع. . . فإذا به يقف أمام الحقيقة